لا تصدقوا كل ما يدعونه!

والإسراف في الاستجابة للإعلانات

أعرف رجلاً كلما سمع إعلاناً عن سلعة جديدة بادر إلى شرائها مهما كان نوعها وعملها، ثم سارع إلى رميها في غرفة التخزين! وبعد مدة يتضايق من هذه الأشياء، فيعمد إلى توزيعها على الفقراء والمساكين الذين لا يعرفون ماذا يصنعون بها؛ لأنها من الكماليات وهم بحاجة إلى الضروريات؛ فيهملونها وقد يرمونها، خاصة وأن طريقة استعمالها صعبة ومعقدة فهي تعتمد على التكنولوجيا الحديثة وهم لا يدركون أسرارها، فتكون النتيجة خسارة هذه السلعة وخسارة ثمنها. وليس هذا الرجل متفرداً؛ فكثير من الناس يفعلون فعلته لأن في التملك لذة ومتعة، وحب الشراء غريزة طبيعية في الإنسان. فكان من السهل أن يصل إليه وإلى أمثاله أصحاب السلع -على اختلاف بضائعهم ومنتجاتهم- وأن يصطادوه عن طريق الإعلان.

والإعلانات اليوم أكثر من أن تحصى، وهي في كل مكان في الإذاعات وفي المطبوعات وفي المرئيات، بل إنها على أرصفة الشوارع وفي الطرقات والمنعطفات، وليس شيء إلا وتشمله. فلا يمكن للإنسان أن يتجاهلها أو يتناساها أو يضرب الذكر عنها صفحاً، ولو أنه فعل لذكرته زوجته أو ابنه. وما وضعت الإعلانات إلا لهذا!

وإنما ليس من الممكن ولا من المعقول أن تشتري العائلة كل ما يعجبها مما يعلن عنه؛ لكثرته، أو لأنها تملك ما يشابهه وما يقوم مقامه. أو قد تمتنع عن الشراء لأسباب أخرى كغلاء سعر المنتج، أو عدم وجود مكان لتخزينه. لكن أصحاب المنتجات والمسوقين يحاولون جهدهم، فيتحايلون علينا ويجتهدون ليأخذوا أموالنا، وعن طيب نفس منا! وهم يبذلون في سبيل هذا ما يستطيعون من وسائل وأموال. وما لأحدنا من مخرج من هذا البلاء إلا بأن يصمم على أن لا يشتري وأن لا يقتني إلا ما يحتاجه حقاً، وما ينفعه فعلاً.

وهاكم بعض الأساليب التي يتبعونها ليجبرونا على شراء ما لا نحتاجه لتحذروا منها:

1- إنهم يحاولون إغراءنا بالهدايا المجانية، وهذه خدعة بينة؛ فمن ذا الذي يعطي دون أن يأخذ أو يبيع دون أن يربح؟ فنحن ندفع ثمن السلعة التي نشتريها ونتغرم معها ثمن الهدية من دون أن ندري، لكنهم يوهموننا بأنها هدية فيجبروننا على الشراء! فينبغي على الإنسان أن يكون عملياً وواقعياً فلا يغترَّ بالهدايا التي يروّجون السلعة بها-ولو كانت فاخرة- فهذا أسلوب مبتكر لدفعه إلى شراء ما لا ينفعه رغبة بالهدية! ولو أنه اشترى الهدية وحدها من مكانها الأصلي لكان ذلك أفضل له وأحسن لأنه سيختارها بعناية من حيث المزايا لتناسبه وحاجاته!

أو هم يختارون لنا الهدايا السخيفة الخفيفة ليحافظوا على رخص السلعة، فتفسد تلك الهدايا بسرعة بالغة مهما راعيناها وأحسنَّا استخدامها، وفي بيتي اليوم ثلاثة رادّات (أجهزة راديو) خربة، ومسجلتان متوقفتان عن العمل، وأمثال ذلك. فأي فائدة لتلك الهدايا السريعة العطب؟! لذلك حفظت أنا هذا الدرس واستوعبته جيداً؛ فلم أعد أغتر بالهدايا إن كانت السلعة الأصلية شيئاً لا أريد اقتناءه. وصرت حذرة متيقظة عندما أتسوق أي شيء حتى مؤونة المطبخ فلا أشتري إلا ما أحتاجه حقاً، بل إني بالغت في الأمر فصرت اضطر أحياناً إلى تجنب السلعة الأساسية التي كنت أرغب بها إلى غيرها بسبب الهدية التي ألصقوها معها!! وذلك لأن الهدية تكون في كثير من الأحيان شيئاً كمالياً لا يعجبني ولا ينفعني فأراه متاعاً زائداً، فأتركه! فبماذا سيفيدني كوب مزخرف؟ إنه سيكون نشازاً في بيتي بين الأكواب، وسيكون سبباً لمشاجرة بين أولادي كل يريده لنفسه! وماذا سأفعل بقبعة شمس وعندي منها الكثير، وماذا سينفعني القميص الأبيض الذي يحمل شعار الشركة المنتجة للسلعة؟ إنه دعاية لهم، وعبء علي في الغسيل والتنظيف وهو أبيض اللون! فما الذي يحملني على قبول قميص يفيدهم ولا يفيدني؟!

وقد قابلني مرة مندوب “بامبرز” في أحد المخازن فسألني ماهي الهدية التي أحبها  أو أقترح أن تقدمها الشركة مع كيس الحفاظات وخيرني بين كوب وشامبو ولعبة أطفال. فقلت له: “فأما الكوب فإنه سيكون مختلفاً عن سائر الأكواب التي أقتنيها فيبدو شكله نشازاً! كما أنه سيتسبب بمشكلة بين صغاري (إلا إذا أتيت لكل واحد بكوب). وأما الشامبو فالأفضل أن تختاره المرأة بنفسها ليكون مناسباً لشعرها، واختياركم للشامبو قد يناسب وقد لا يناسب. وأما لعبة الأطفال فإنها فكرة جيدة ولكن لبعض الأطفال ذوقهم الخاص فهم لا يلعبون بأي لعبة تقدم إليهم. من أجل ذلك أنا لا أحبذ الهدايا المجانية، وأفضل بدلاً منها تخفيض السعر! فإن كانت الشركة لا بد فاعلة فإني أفضّل أن تقدم لي مجموعة من الحفاظات المجانية. فهذا ما ينفعني وهو ما أحتاجه أكثر ما دمت قد اشتريت كيس الحفاظات”. ولعله قد استغرب من جوابي!

وأعجبه تلك الهدايا التي يتسلمها المستهلك بعد أن يجمع علباً فارغة أو كوبونات أو أشياء تشبهها، فهذه لا يحصلها إلا قلة قليلة من الناس، لأننا ريثما نجمع الكوبونات تكون الكمية -كما يقولون- قد نفدت!

2- وهم يحاولون إغراءنا بجودة المنتج وقوة فاعليته. وينبغي أن لا يصدق الإنسان كل ما يقال عن السلعة، فما هو -غالباً- إلا فخ لإغرائه باقتنائها، وطالما تبين من بعد أن المُعلَن عنه ليس كما يقولون! وعذراً لأصحاب السلع؛ ولكن شهد زوجي يوماً إعلاناً حياً لمسَّاحة جديدة تنظف الأرض بطريقة سحرية، فسمع بأذنيه مزايا السلعة، ورأى بعينيه الرجل المُسَوق لها وهو يرميها على الأرض وينط فوقها ليثبت ويؤكد أن من مزاياها المتانة ومن صفاتها التحمل، فلما جاءني بها إلى البيت انكسرت عند الاستعمال الثاني! وما زالت محفوظة من يومها في المخزن! وما أفلحت الجهود في جبر كسرها لأنه جاء في نقطة ضعيفة لا يمكن لصقها ولا رقعها. ولم يطاوعني ضميري على رميها والتخلص منها.

فعلى المستهلك أن يتأمل السلعة جيداً وأن يقوّمها بنفسه قبل الإقدام على شرائها، وربما كان من الأفضل أن يسأل المستهلك أحد الخبراء عن جودة السلعة ومدى فاعليتها قبل شرائها، فقد تبين أن في بعض السلع خدعة كبيرة، ولو سئل أصغر خبير لأفتى بالخبر اليقين. فمراهم التنحيف لم تُجدِ قط رغم ارتفاع ثمنها، ومزيلات البقع السحرية لم تنفع إلا في إزالة لون القماش وإفساده…

3- وهم يغروننا بأن سلعتهم (التي نعرفها من قبل) تطورت وتميزت أكثر عما سواها وما سبقها من منتجات فلا بد إذن من استبدال الجديدة بالقديمة. وهذه الحجة يمكن أن تستعمل ضدهم أيضاً، فما دام الأمر كذلك فإنه قد يكون من الأفضل أن نؤجل شراء الأشياء لحين الحاجة الحقيقية إليها، ولن يضيرنا ذلك لأن التطور سيتجاوز ما قد نشتريه اليوم! فالتريث خير من الاستعجال وأفضل، ومن تصبّر حظي بسلعة أحسن وأجود وأكمل حين يحتاجها.

*   *   *

لقد وُضع الإعلان ليروج للسلعة مطلقاً، وهو اليوم أمر لا بد منه للمنتج، أما المستهلك فإنه كامل الأهلية وحر التصرف في أن يشتري أو يحجم، وفي أن ينتقي ما يشاء من المعلَن عنه، فالتقدير له ليختار ما يناسب بيته وحاجاته. فكان الأجدر بالإنسان أن يتريث ويفكر ملياً ويتأمل السلعة جيداً ويدرس مدى حاجته إليها، وكم مرة سيستعملها ويستفيد من خدماتها فإن متعة الشراء تزول سريعاً، ولكن تبقى السلعة جاثمة دائماً في بيوتنا تضيق علينا بحجمها، وتلزمنا خدمتها وتنظيفها، وتجمد قسماً من أموالنا.

وإن التفكير بهذه الطريقة من السنة لما رواه الإمام أحمد: “من فقه الرجل فقهه في معيشته”. والفقه  في المعيشة ينبني عليه أن يدرس المسلم وضعه الاقتصادي، ووضعه الاجتماعي، ثم ينفق بناء عليهما، وهذا يعني أن ما يكون في حقه إسرافاً، قد يكون في حق غيره ضرورة. وبهذا يقوم الأمور.

ولعل الحكمة في ذلك النهي قد بدت وتوضحت في عصرنا هذا: فالتقدم العلمي طال كل شيء ولم يعد من الممكن اللحاق به؛ فلا يكاد المستهلك يشتري جهاز الكمبيوتر ويحمّله بالبرامج اللازمة حتى ينزل للسوق جهاز جديد أكثر تطوراً أو سرعة أو أجود أداء، بحيث لم يعد ممكناً -حتى للغني القادر- أن يجاري التطور ويستبدل بجهازه القديم جهازاً جديداً إلا بعد حين. ويشمل هذا كل شيء؛ فالأجهزة الكهربائية في تطور رهيب متسارع، والأشياء الالكترونية في تحسن رائع مدهش، والإبداع والابتكار قد دخل كل صغيرة وكبيرة في حياتنا… وتكفلت وسائل الاتصال الحديثة بوضع هذا كله، وفوراً بين أيدينا! فكيف يقاوم المسلم كل هذه الفتنة إن لم يتسلح بالقناعة؟ والقناعة لا توجد إلا حيث يكون الإيمان، ومنه يتولد الرضا. وبقليل من التفكر يطغى التعقل وتنتصر الإرادة، ويقتنع الإنسان بأن الدنيا ما هي إلا متاع وبوابة، فلا يشغل نفسه بتتبع زينتها، ولا يهتم بزخرفها، وإنما يأخذ منها بقدر ما يحتاجه، وبقدر ما تسمح به ظروفه وأحواله، فيستمتع به، ثم يدع ما بقي منها ويتناساه ويتكيف على الحياة من دونه.

*   *   *

شاهد أيضاً

والإسراف في الطاقة

الكهرباء والنفط والغاز وما شابهها (من مولدات الطاقة) من الاكتشافات العظيمة، والإنجازات الضخمة، التي ميزت …