في عالم الصغار

   تعلمت من جدي أن أنزل إلى مستوى الصغار لأفهمهم، وأن أعيش ساعات في عالمهم لأوجههم، فوجدت أن                كلمة -من التوجيه- في جوٍ من المودة والقرب والاسترخاء تعدل ألف كلمة في جوٍ من التوتر والجد والانفعال.

كان جدي لطيفاً معنا -ونحن صغار- غاية اللطف ودوداً كل المودة، يرحب بنا إذا دخلنا غرفته، تاركاً ما بيده، مقبلاً علينا، فيجلسنا على ركبتيه، ويحاورنا و يمازحنا ويتفاعل مع قصصنا فيظهر السرور لفرحنا والحزن لألمنا.

وكان إذا وجد منا فتوراً يبتكر أي أسلوب ليدخل البهجة إلى قلوبنا، فتارة يبني لنا من وسائد الكنب بيتاً نلعب فيه، وحيناً يصنع لنا طعاماً خفيفاً نسرّ بتناوله. بل إن أختي أرادت يوماً أن تلعب الشطرنج وهي صغيرة لما تتم الخامسة، ولم يقبل أحدٌ أن يلعب معها لأنها أصغر من أن تفقه في الشطرنج شيئاً، فلعب معها بنفسه مجاملةً لها وحرصاً على مشاعرها!

وذات يوم لمس منا ضجراً شديداً، ومللاً كبيراً، ففاجأنا بنزهة لم ننسَ روعتها إلى اليوم:  نزل بنا إلى الشارع ثم اقترح أن يختار أصغر حفيد بيننا الطريق الذي نسلكه: يميناً أم يساراً أم إلى الخلف أم إلى الأمام. فاختار ما بدا له من اتجاه، ومضينا في ذلك الدرب حتى وصلنا أول تقاطع طرق، فاختار الحفيد الذي يلي بالسن: أنمضي إلى الأمام أم نلتفت يمنة أم يسرة… وهكذا، كلما وصلنا تقاطعاً اختار أحدنا وجهتنا. كل ذلك وجدّي ماضٍ معنا منتبهٌ ألا يقطع أحدنا الطريق بغير انتباه أو يبتعد أي واحد عن المجموع، يسمي لنا الشوارع ويعرفنا الاتجاهات، ويقص علينا بعض الطرائف أو الذكريات التي تذكره بها الأماكن التي نمر بها.

وما زال ماضياً معنا يُسمعنا الفوائد ويروي لنا الحكايات ويدربنا على المشية الصحيحة بالجسم الممدود والظهر المشدود، حتى وصلنا إلى ضفة النهر، فاسترحنا قليلاً وتمتعنا بمراقبة الضفادع تتقافز إلى الماء ونقيقها العجيب يقطع سكون المكان الجميل. لبثنا هناك ما شئنا حتى اطمأن جدي أننا قد اكتفينا وقنعنا بذلك القدر فاستقلّ  سيارة أجرة عادت بنا إلى البيت.

*   *   *

كان ذلك منذ أكثر من ربع قرن، وهو أمر أنفق فيه جدي ساعات ليس غير، ولكنه سيبقى حدثاً ماثلاً في أذهان الذين شاركوا فيه من الأحفاد ما عاشوا، يحملونه ذكرى جميلة في عقولهم وإحساساً حلواً في قلوبهم يدفعهم إلى السعي لإدخال السرور إلى قلوب الصغار في كل وقت وفي كل آن.

فيا أيها الآباء:

ادخلوا إلى عالم أولادكم وعيشوا معهم في الجو الذي يعيشون  وخاطبوهم باللغة التي يفهمون ويألفون. ابتكروا في أساليب الترفيه مما يُشعر أبناءكم بتفوقكم الكبير عليهم حتى في عالمهم، فيستجيبوا لكم، ويسهل عليكم قيادهم. احملوا السرور إلى حياتهم واحرصوا على تسليتهم بما هو مباح، واعلموا أن لكم بالفرحة التي تُدخلونها إلى قلوبهم أجراً ومثوبة من الله. ثم استغلوا هذه اللحظات من القرب والتبسط لتوجهوا كيف تشاؤون وتزرعوا من المفاهيم والقيم والأفكار ما تريدون.

*   *   *

 

شاهد أيضاً

الصدق مع الصغار

       أبناؤنا يتعلمون الصدق حين نصدق معهم، وصدقنا معهم يدفعهم إلى الثقة بنا …