لم أعد أحبك

تعرف كل أم أن النوم والطعام والشراب أشياء مهمة جداً للمحافظة على بقاء طفلها وكمال صحته، إنما يفوت بعض الأمهات أهمية “الأمن النفسي” اللازم لسعادة الفرد وطمأنينته، ويجهلن ضرورته للحصول على فرد سوي صالح لتحمل الأمانة، وقادر على توفيتها حقها.

و”الأمن النفسي”حاجة ضرورية من حاجات الإنسان وهو يعني التحرر من الخوف أياً كان مصدر هذا الخوف لأن الخوف مصدر كثير من العلل والمتاعب النفسية، والشيء الذي يرضي هذه الحاجة عند الطفل ويشبعها هو أن يكون موضع حب وعطف ومودة من ذويه ومعارفه وأقرانه… ولكن كل هؤلاء لا يستطيعون أن يهبوا الصغير ما يحتاجه حقاً  من هذه الأشياء كما تفعل الأم، فالحب هو الغذاء الروحي الذي تقدمه الأم لأطفالها، والصغير يشعر بأنه موضع سرور وفخر لوالدته وهو يستمد منها كل ما يحتاجه من الحب فيحس بالسعادة والاطمئنان والأمن لوجود شخص يحبه ويصاحبه ويعطف عليه ويهتم به ويسهر على راحته.

ولذا تعتبر علاقة الطفل بوالدته من أهم العلاقات الإنسانية في مرحلة الطفولة المبكرة؛ فالأم هي التي تهتم بكل شؤونه وهي التي يلجأ إليها إذا كان في مأزق، والولد بحاجة إلى كل المظاهر التي تعبر عن عظيم محبتها، مع التأكيد الدائم المستمر على وجود تلك المحبة واستمراريتها وحيويتها بالقول كما بالفعل، وتجعل هذه المحبة الفرد إنساناً سوياً متوازناً مستقر العواطف، وبالتالي فإن عبارة مثل عبارة “لم أعد أحبك” ليست مجرد عبارة للطفل الصغير، إنما هي على قصرها كلمات مؤذية تثير حفيظته، وتهز طمأنينته، وتخدش الأمن في داخله، وتشككه بحب والدته له فتنسف سعادته وتفقده اتزانه، يقول د. سبوك: “إن الأطفال بحاجة إلى حب الأبوين الطيبين أكثر من أي شيء آخر… وإن الكثيرين ممن يقعون في الاضطراب والمتاعب إنما يعانون في الواقع من فقدان العطف”[1]، فلا يجوز أن تهدد الأم نفسية ابنها بهذه العبارة، ولا يصح أن تجعل من الحب -وهو حاجة ضرورية وأساسية- سلاحاً تلوح به للصغير فتفقده الأمن وتشعره بالقلق من أن يفقد يوماً حب والدته وعطفها وحنانها.

إن تكرار أي عبارة يفقدها أهميتها وفائدتها وفاعليتها من الناحية التربوية، فتكرار هذه العبارة “لم أعد أحبك” لن يجدي بعد مدة في ردع الأطفال عن السلوك السيء، ولن يوقف عدوانهم، لأن لأمثال هذه العبارات المثبطة المحبطة رد فعل معاكس، إذ يتوق الأطفال عادة إلى تحقيق كل ما يصبون إليه، ولكنهم يمتنعون عن ذلك إرضاء لأمهاتهم، وما داموا -فيما يظنون- قد فقدوا حب أمهاتهم لهم بعد فليتمتعوا إذن بفعل كل ما يحلو لهم، وليسعدوا أنفسهم، ليحققوا شيئاً يرضيهم ويعوضهم عن فقد محبة أمهاتهم، وهذا ما قاله د. سبوك: “إن أعماق الطفل إذا عانت من فقدان الاحساس بالحب الدافئ من ناحية أهله أو من يقوم مقام الأهل.. إن أعماق هذا النوع من الأطفال يعرف كيف ينتقم لغياب هذا الحب.. إن هذا النوع من الأطفال لا يكون مشاكساً أو ثقيل الظل ولا يجيد حسن التصرف فقط، إنه أيضاً لا يهتم أبداً بنوعية سلوكه، ولا يهتم ما يظنه الآخرون عنه، ولا يهتم بما سيحدث له. لقد فقد أهم شيء في حياته وهو “حب الأهل”، فماذا يمكن أن يعطي سوى الانتقام من البيئة التي ينشأ فيها؟!”[2]

ولكن ورغم ذلك لا تعوض تلك المشاكسة الطفل عن الحب، ولا تنفع هذه اللامبالاة التي تظهر في سلوكه في حمايته من  الآثار النفسية السيئة لعبارة “لم أعد أحبك”، ولا تهبه الحرية التي يتمتع بها الحنان والدفء، وهنا تكمن الخطورة الثانية من ترديد العبارة إذ يشعر الطفل بالحرمان العاطفي ولا يستطيع مقاومة حاجاته الطبيعية إلى الحب، فيصاحبه القلق وتسيطر عليه الحاجة الملحة إلى الحب.

ويصبح الحل عسيراً في هذه المرحلة إذ يتمادى الولد في سلوكه العدواني، وتكثف الأم بالمقابل حملتها المضادة بزيادة عدد المرات التي تصرح فيها بعبارة “لم أعد أحبك”، ويصعب أن يشعر طفل كهذا بحب والدته له، ويتعذر عليه أن يصدق أنها تكن له عاطفة كبيرة، بعد أن يسمع هذه العبارة باستمرار وتستمر الحال كذلك حتى يؤدي إلى اضطرابات انفعالية وعصبية تظهر في علاقاتهم الاجتماعية ومع أقرانهم في البيت والمدرسة، وإذا استمر سلوك الولد السيء واستمرت الأم في ترديد هذه العبارة “لم أعد أحبك” أصبح الطفل غير قادر على أن يتسق مع نفسه ومع العالم وينتج عن ذلك صراع حاد وقلق واكتئاب

وفي حب الطفل لوالديه قوة عظيمة تدفعه إلى التفاني في الطاعة، وتعزز في نفسه الثقة الزائدة، والطفل يعيش بمشاعره وأحاسيسه ولا يعرف للتربية والتعليم قيمة إلا إذا مزجا بالحب والعاطفة فالواجب علىالأم أن تشعر أولادها بحبها لهم وتحرص على حب أولادها لها فلا تكرر أمامهم هذه العبارة، ولا تثير كرههم بأي طريقة لئلا يزول حبها من قلوبهم

يُسهل الحب المتبادل عملية التربية: “إن المحب لمن يحب مطيع” وحب الأم لأولادها يجعلهم يبادلونها حباً بحب، والحب يعني الطاعة والانضباط والتضحية والحرص على المشاعر. ولكن عبارة “لم أعد أحبك” تعكس المعادلة فينقلب الحب إلى بغض، والطاعة إلى تمرد… وبدل أن يتخذ هؤلاء الأولاد من آبائهم أصدقاء ومثلاً عليا يطمحون إليها،  نراهم يبتعدون محاولين  تجنب أي احتكاك بوالديهم، مما يصعب عملية الانضباط والتوجيه.

والخلاصة: أن عبارة “لم أعد أحبك” تهدم العلاقة الصحية بين الأم وابنها وتؤثر على تشكيل عقل الصغير وطريقة تفكيره، وتؤدي إلى عواقب وخيمة. وإن الأطفال الذين يسمعونها كثيراً مصحوبة بالإهمال والقسوة لا يكنون مشاعر الحب والدفء لأي شخص ولا يبدون الود للناس، ويصبح التعامل معهم صعباً للغاية، ويتصفون بالعنف والأنانية، ويشب هؤلاء الأطفال وتنمو معهم تأثيرات هذه العبارة وتكبر حتى يصبحوا آباء غير مكتملي النضوج، آباء تنقصهم القدرة على رعاية الأطفال، أو يكونوا آباء فاشلين فيخرجوا من جديد أمثالهم، وتستمر دورة الحرمان والفشل وتتسع وهنا يكمن الخطر الحقيقي لعبارة “لم أعد أحبك”.

(العبارة العاشرة في كتابي “عبارات خطيرة”)

***


[1] موسوعة العناية بالطفل ص341.

[2] دكتور سبوك: حديث إلى الأمهات مشاكل الآباء في تربية الأبناء ص9.

شاهد أيضاً

دع اللعب فقد كبرت عليه

تستهجن بعض الأمهات أن يلعب أولادهن الذين اقتربوا من البلوغ بأي لعبة (رغم اختلاف الألعاب …