التربية عملية مجهدة
ولا خلاف في هذا بين جيل وآخر
لم أعاني أنا من اختلاف هذا الجيل! ولم ألاحظ أي تبدل مثير للريبة في أولادي! ولم أجد صعوبة في قيادهم وأنا أم لخمسة ذكور (تجاوز أكبرهم السابعة والعشرين واقترب أصغرهم من الرابعة عشر)! وكنت -في نفس الوقت- أرى بعض الأمهات يعانين مع أولادهن وكنت أسمع شكاتهن المتجددة من شدة ذكاء هذا الجيل ومن عنف تمرده وتعذر قياده!
أنا عانيت من أشياء تعاني منها كل أم في كل زمان وفي كل مكان: “صخب الأطفال” و”الفوضى” التي يسببونها في أرجاء البيت (وأنا بلا خادمة)، وأكثر ما كان يزعجني منهم “شجارهم المستمر” و”تنغيص نومي” وإقلاق راحتي. وتعبت من “متابعتهم” و”محاولة تعديل سلوكهم” وفي “تلقينهم المبادئ النبيلة” و”القيم العالية” وفي التأكد من “سلامة عقيدتهم” و”صحة عبادتهم” و”ربط الدين بالحياة”… أشياء أخرى كهذه وليس أكثر، ورغم ذلك أُجهدت وتعبت كما تُجهد كل أم متفانية وتتعب.
وسأبدأ قصتي من البداية:
أحببت الأطفال كثيراً من صغري، وتقت إلى المثالية في تربيتهم والتعامل معهم، أردت توجيهاً رائعاً لأحصل على أولاد متميزين. وكنت أراقب الأمهات (من قريباتي ومعارفي) وأعتب عليهن حين يَقْسين على أطفالهن وحين يتساهلن معهم!
ولبثت بضع سنين وتزوجت وأنجبت، ودخلت في دوامة التربية وعشت فيها بكل جوارحي ففهمت حجم الموضوع وعرفت حقيقته، ولم أعد أنتقد تربية الأمهات كما كنت أفعل!
وبعد التجربة فهمت بأن عملية التربية لا تخلو من صعوبات وعراقيل ومثبطات، منها القديم المعروف ومنها الحديث الذي جد ووصل إلينا من قريب.
لقد أدركت شيئاً من سر التقصير وفهمت لماذا يكون الخلل وكيف يتطرق النقص إلى توجيهاتنا؛ فالناظر من بعيد يحسب التربية عملية سهلة ويخالفه الرأي من خاض غمارها وعانى من ويلاتها!
وتراجع حبي للصغار لما ذقته من إزعاجهم وصخبهم ومسؤولية تربيتهم وحفظهم وتوجيههم، وعدلت عن نيتي بإنجاب اثني عشر طفلاً! على أني أحببت أولادي حباً جماً، وفضلتهم على العالم كله، وتركت العمل ومتابعة الدراسة والحياة الاجتماعية من أجلهم، وتفانيت في محاولة لفهمهم وإحسان التعامل معهم، وأعطيتهم ما استطعته من نفسي ووقتي ومالي… الأمر الذي أتعبني وأرهقني، على أني صمدت وناضلت وربيت!
وخلال كفاحي اكتشفت أشياء غريبة، واكتسبت خبرات مفيدة، ولم أكتب تجربتي. ومرت السنوات ونسيت آلامي وسهري الليالي وهموم التربية ومعاناتها، وسبقت سعادتي أحزاني لما رأيت أولادي الكبار شباباً ناجحين بفضل الله.
لكن، ولما تعالت أصوات كافة الأمهات وكثر تذمرهن من هذا الجيل، وكثرت تساؤلاتهن عن “التربية” وفنونها وطرقها المثلى. حملني صنيعهن على الاهتمام والاستقراء، فوجدت البلوى عمت، أصبحت قضية “تبدل الجيل وصعوبة السيطرة عليه” مشكلة كل أم، وأصبحت فكرة “تربية النشء وتوجيهه بشكل سليم” هاجس المربين.
وإني -وبعد خروجي سالمة غانمة (والحمد لله) من تربية خمسة ذكور- قررت المساعدة وأنشات هذا الكتاب في محاولة لتحليل مشكلة “المربين مع هذا الجيل”، وفهم الوضع، والوصول -من بعد- إلى أحسن الحلول، وأسهل وأسلم الطرق التربوية.
وما أردت إلا الإصلاح ما استطعت.