أساليب مبتكرة للتشجيع

      الإكثار من التهديد والمبالغة في العقاب أسلوبٌ تربوي غير صحيح ولا يكاد يوصل إلى نتيجة. الجؤوا إلى أسلوب التحفيز وروّحوا عن أولادكم مرة بعد مرة بالمكافآت والهدايا، فلعله الأسلوب الأجدى أحياناً. هذه وصفة جاهزة فجربوها.

كنت أحب دار جدي القديمة القائمة في دمشق على سفح جبل قاسيون حباً جمّاً، وكنت أفرح كثيراً بزيارة جدي وأسرّ باللقاءات العائلية التي تكون فيها سروراً كبيراً، إلى أن اضطررت وعائلتي للإقامة بها فترة من الزمن (ريثما انتهت أعمال البناء في دارنا الجديدة) في الوقت الذي كان جدي غائباً في السعودية. عندها شعرت بالوحدة والوحشة شوقاً  إليه، ولم يكن يخفف عني وعن أخواتي هذا الشعور غير زيارات خا لتي المقيمة في عمان، والتي كانت تتردد على بيت جدي -كل حين- مع أولادها ، مما يملأ البيت بالحياة، ويعيد جو الصخب الذي افتقدناه، ويبعث البهجة في قلوبنا، فنقضي النهار نلعب ونتحدث مع أولاد خالتنا الصغار.

وكان يزيد بهجتنا أننا كنا نعامَل -عندئذٍ-كالكبار: فإذا حضر وقت الأكل أعدت لنا أمهاتنا  الطعام على الطاولة، ثم يتركننا فنبقى وحدنا (دون إشراف) نأكل ونتحدث، وكنا -لفرط سرورنا- نأكل ببطء ، أو نترك الطعام فنلعب ونضحك، مما كان يزعج أمهاتنا ويدعوهنّ إلى تنبيهنا بين حين وحين لنكف عن عبثنا ونتوقف عن لعبنا ونسرع في تناول طعامنا. وكنا نحب أمهاتنا ونجتهد في طاعتهنّ، لكن سعادتنا وشعورنا بالحيوية والنشاط كان يلهينا -في بعض الأحيان- عن تلك التوصيات وينسينا النتيجة المترتبة على إهمالنا لها فنستحق العقاب.

وعندما جاء جدي (في العطلة الصيفية) ورأى ما يحدث دخل علينا المطبخ فجأة ثم تناول من حامل الصحون ثلاثة أطباق، فوضع في أولها عشر ليرات سورية، وفي الثاني سبع ليرات، وفي الثالث خمساً، ثم التفت إلينا قائلا: أنتم الآن في مسابقةِ “مَنْ ينهي طعامه أولاً؟” وهذه الليرات هي جوائز المسابقة، وأنا أنتظر الفائزين الثلاثة في غرفتي … ثم خرج من المطبخ؛ فامتلأنا حماساً وتسابقنا للحصول على الجائزة الأولى.

فما الذي فعله جدي ؟

1-لقد نقلنا من جوّ التهديد بالعقاب إلى جوّ التربية بالثواب، بلمسة مبدعة أثارت حماستنا وجعلتنا نسعى إلى الفوز والنجاح.

2-واللمسة المبدعة الثانية أنه جعل إنهاء الطعام هدفنا (وهذا ما كانت تريده أمهاتنا‍ ويسعين إليه)، فحملنا على الإسراع بالطعام بدافع ذاتي ، وبرغبة داخلية.

*   *   *

هذا مثال واحد لأسلوب مبتكر في التربية والتعامل مع الأطفال، لكنه أثبت -مع التجربة- فعاليته؛ فلا يمكن أن تكون التربية دائماً بالتهديد والوعيد والإجبار، بل الأَوْلى أن نجعل أطفالنا يسلكون الطريق الصحيح وكأنهم قد اختاروه بأنفسهم (وليس بإيحاء منّا) مما يجعلهم يتمسكون به في حضورنا وغيبتنا، ويحرصون عليه في كل الأوقات.

*   *   *

شاهد أيضاً

في عالم الصغار

   تعلمت من جدي أن أنزل إلى مستوى الصغار لأفهمهم، وأن أعيش ساعات في عالمهم …