المشكلة الثالثة- أننا نحسن الظن بأنفسنا فلا نلومها ونبرر أفعالنا مهما كانت

يقول ديل كارنيجي: صرح لي رجل مال معروف مرة بقوله: “لقد علمتني تجارب ثلاثين عاماً أن من الحماقة أن تلوم أحداً؛ ومن ثم شغلت بإصلاح عيوب نفسي عن التحسر على أن الله سبحانه لم يشأ أن يوزع موهبة الذكاء بالعدل والقسطاس بين الناس!!” لقد تعلم هو هذا الدرس مبكراً، أما أنا فقضي علي أن أتخبط في هذه الدنيا مدى ثلث قرن من الزمان قبل أن أتعرف على هذه الحقيقة: وهي أن تسعين بالمئة من الناس لا يلومون أنفسهم على شيء بالغاً ما بلغ من الخطأ! إنها الطبيعة الإنسانية! المخطئ يلومه كل امرئ إلا نفسه!! هل في ذهنك الآن شخص من صميم قلبك أن تغير طباعه، وتهذب خلقه، وتهديه سواء السبيل؟! إذا كان كان كذلك فهذه أريحية تشكر عليها، ولكن… لمَ لا تبدأ بنفسك أولاً؟ فمن وجهة النظر الغريزية الاهتمام بالنفس أحب بكثير من الاهتمام بالغير، وأقل خطراً كذلك؟. وقد قيل: “عندما تبدأ معركة المرء بينه وبين نفسه فهو عندئذ شخص يستحق الذكر“.

والحياة زاخرة بهذا:

– إذ خبرت امرأة تعيب على بعض أولادها أنهم لا يحسنون استقبالها، ولا يكرمون وفادتها، وكانت تسير بين الناس وتتحدث بهذا. فلما جلستُ إلى أمها، قصت عليّ من ذكرياتها المؤلمة وكان منها سوء ما كانت تلقاه من ابنتها تلك عندما كانت تضطر للسفر إليها لتعتني بها عند ولادتها، فكانت تلك البنت (التي صارت أماً تشكو) لا تكترث كثيراً براحة والدتها ولا بسرورها، وكانت لا تظهر لها شيئاً من كرم الضيافة، ولا تبدي لها مظاهر السرور بقدومها ولا دلائل الامتنان لفضلها، حتى أنها لم تكن تسمح لها بأبسط الأمور مثل أن تعلق ملابسها في خزانتها، فكانت تخشى على ملابسها من مجاورة ملابس أمها!؟ وكانت تفرش لها فراشاً على الأرض في غرفة أولادها، وكانت تحد من حريتها في التجول في البيت، وغيره مما يسيء. في حين كانت تلك الأم تتنازل عن غرفة نومها لابنتها وزوجها عندما يحضران لزيارتها، وتحسن وفادتهما، وتتخير لهما أطايب الطعام، وتحث كل أهل البيت على إظهار الحفاوة والتكريم!؟

وشكى لي منها أبوها، فقال أنه لا يحب زيارتها أبداً لأنها تستهتر بضيوفها، وإن أي قشة في بيتها أحب إليها من الناس جميعاً.

وعتب عمها عليها لأنها رفضت أن تخزن صندوقاً له في بيتها،  مع أن لديها مخزناً واسعاً.

وقالت لي أختها: لا أحب زيارتها أبداً.

فلما استفسرت من بنتها مستغربة كيف تفعل هذا بأمها؟ قالت: أنها لم تقصد أن تزعج أحداً أبداً، وقلبها طيب، وهي حسنة النية، وإنما هذه طريقتها في الحياة ولا تستطيع أن تخالفها، وهذا نظام بيتها، والنظافة أهم شيء في قاموسها فكيف تعلق ملابس أمها في خزانتها وقد خرجت بها إلى الشارع؟ فهذا يخالف قوانين النظافة. والخزانة أصلاً ليس فيها مكان للمزيد من الثياب فثيابها مكتظة، وغيره. فكان ينبغي على أمها أن تقدر طبعها، فلا تلومها، ولا تتأثر من سلوكها!!

فقلت: ولماذا أسأت إلى أبيكأبيك؟ قالت: إنه كثير الطلبات، وصحتي لا تساعدني على خدمته، فعليه أن يضع هذا في حسبانه! قلت: وعمك؟ قالت: لا أحب أن أضع في بيتي إبرة ليست لي، هذا مذهبي في الحياة، فيجب أن يحترمه الناس! قلت وأختك؟ قالت: إن لها طريقة في إدارة المنزل تخالف طريقتي، فكان عليها أن تنتبه لهذا فلا تنازعني في مملكتي.

ثم عادت تتابع شكواها من أولادها!

*   *   *

وإننا لنستهجن سلوك الآخرين، ولا نبرر لهم، ونرى أفعالهم غير مدروسة، والسبب أننا لا ندرك الحيثيات التي تكمن خلف أي عمل من الأعمال وهي عديدة ومختلفة:

– أعرف أماً كانت تحب أن تربي أولادها على أحسن حال، فَقَستْ قليلاً على الكبير ليكون قدوة، وإذا به يصاب بعقدة الذنب والانطواء، وظنت الأم أنها عارض وينتهي، لكنه استمر وصار مرضاً، وحاولت الأم علاجه فلم تفلح، فتألمت جداً، وكان رد فعلها أن تساهلت مع إخوته في أسلوبها التربوي، وليس في التوجيه وتلقين المبادئ، خشية أن يتكرر الأمر معهم.

ولكن الناس حسبوا لينها ضعفاً وعاطفتها دلالاً مفسداً، وبالغوا في انتقادها وهي غير قادرة عن الدفاع عن نفسها، إذ ليس من الحكمة أن تفشي سرها لكل فرد حتى يعذرها، فالضرر من وراء هذا أعظم من الفائدة التي ستعود عليها، ولو علم الولد بهذا لازداد انطواء، وللازمه الاكتئاب أيضاً.

– وتتكرر كثيراً تلك الشكوى من الزوجات؛ فالزوج يدعو أصدقاءه فجأة إلى الطعام، ثم يتأخر بإحضار لوازم الطبخ، وقد ينقص منها.. فيضيق الوقت على الزوجة المسكينة، ويدهمها وقت الغداء والأكل لم ينضج بعد، وتشعر بالحياء من التأخير. في حين يبدو للمدعويين أن الزوجة قد تجاوزت الموعد المحدد للوليمة، مما يضايق بعضهم ويؤخره عن مصالحه. فتبوء الزوجة وحدها بالإثم، والزوج صامت لا يتطوع ولا يشرح.

وقد وقعت مرة في هذا فقد وعدت قريبة لي ولدت بأن أطبخ لها، بعد أن اتفقت مع زوجي على إحضار الأشياء، ولكنه نسي، وجاء مساء متعباً بعد أن أغلقت أغلب المحلات، ولم يرض أن يشد الرحال إلى مكان بعيد لينقذ الموقف، وكان موقفي يومها سيئاً للغاية، فقد ظنت السيدة أني قد قصرت وأهملت، ولم أكن عند كلمتي. ولم أعرف كيف أشرح لها.

– وتنكرت سيدة لصديقتها بعد انتهاء الحفل فلم تحملها  إلى بيتها في سيارتها ومعها فضل ظهر، وكان الوقت متأخراً ولم يكن لتلك الصديقة من يحملها، فبدى للجميع أن هذا السلوك مخالف للخلق الإسلامي، وللنخوة المطلوبة. فلما أسررتُ في أذنها أن تفعل، شرحت لي الموقف فتعاطفت معها؛ فقد تبين أن زوج تلك السيدة يستعجل العودة إلى البيت بسبب صداع شديد ألم به وبيت الصديقة بعيد، كما اتضح أن  زوج الصديقة تلك يتملص دائماً من حملها ويتركها تتكسب الحمل من هذه وتلك، وما يفعله إلا كسلاً وتهرباً، وكان يفعل ذلك من قبل مع أولاده فيتركهم عالة على جيرانه ليحملونهم معهم إلى المدرسة كل يوم، الأمر الذي كان يتسبب في الفوضى والتأخير، فكان لابد من وقفه عند حده، ليقوم بواجبه ولا يضر بالآخرين.

*   *   *

وإننا غالباً ما نسلك سلوك أولئك الذين ننتقدهم عندما نمر بظروفهم، فنفعل ما تمليه علينا الأحوال، ثم نبرر لأنفسنا. ولكننا لا نقبل أبداً تبريرات الناس لأنفسهم، ونراها واهية، وقد نتهمهم بالكذب والالتفاف على الحقائق!

*   *   *

شاهد أيضاً

حكاية فتحت لي الآفاق

سبب اختياري موضوع “العلاقات بين الناس” وفكرة كتابي الذي نتج عن الموضوع “كيف نتقبل الناس …