حاربوا الاحتكار الجديد

في كل بلد أعمال تجارية كبيرة؛ كتجارة العطور وتجارة الساعات وتجارة الإلكترونيات، وأصبَح مِن المُتعارَف عليه أن يقوم على كل فرع من فروع التجارة رجال بعينِهم يَستأثِرون وحدَهم بالعمل فيها، ويُعرَفون بها وتشتهر بهم؛ فإذا ذُكر اسم المصلحة عرفْنا صاحبها، وإذا ذُكر اسم صاحب العمل عرفنا بضاعته، فعائلة تخصَّصت بالذهب، وأخرى بالأقمشة، وثالثة بالأثاث… وهكذا، حتى علَت أسماؤهم ولمعَت، وقد يكون القائمون على العمل شركاء أو إخوةً أو أبًا وأبناءه، وما يُهمُّنا أن هؤلاء كبرت تجارتهم ونمت أعمالهم حتى صاروا يَملِكون عددًا كبيرًا من المتاجر ذات الحجم الضخم الواسع، وكل متجر يحتوي على أنواع منوعة من البضاعة (التي تخصصوا فيها)؛ بحيث تُناسِب كل الأذواق وتخدم كل الفئات، ولمَتاجِرِهم عدة فروع في المدينة الواحدة، فإذا احتاج المرء إلى شراء أي شيء لم يخطر على باله إلا تلك الأسماء الكبيرة، وسرعان ما يشدُّ الرحال إليها ولو كانت فروعها بعيدة أو مزدحمة، ويدَعُ المتاجِرَ الصغيرة والقريبة.

 

فنرى أكثر الناس لا يشترون الساعات إلا مِن معارض وكيلها المعتمَد، ويُهمِلون صغار التجار، والمرأة تشتري أدوات التجميل من أفخر المحلات وتَهجُر الدكاكين الصغيرة ولو كانت تبيع نفس الأنواع، والأطفال يُلحُّون على أهاليهم بزيارة أشهر متاجر الألعاب في البلد وأكبرها ولا يقنعون بالمتاجر الصغيرة المنتشرة هنا وهناك، والأستاذ يَطلُب من تلاميذه شراء الأدوات الهندسية والدفاتر والأقلام من ذلك الاسم الكبير الذي تصدَّر عالم القرطاسية، وغطَّى على ما سواه من البائعين والمُستَورِدين، ويكفي إلى هنا؛ فقد اتضح قصدي وبان مرادي، وعرف القُراء المتاجر التي أشير إليها، ولن أذكر أي اسم من تلك الأسماء اللامعة الكبيرة؛ لكيلا أعمل دعاية زائدةً لهؤلاء التجار.

 

ولا أدري ماذا تُسمَّى هذه الطريقة في التجارة؟ على أن خير اسم لها هو “الاحتكار الجديد” أو “احتكار القرن الواحد والعشرين”؛ لأنها أشبه شيء بالاحتكار فتُلحَق به، وإن كانت لأول الأمر لا تبدو احتكارًا ولا يَنطبِق عليها تعريف الاحتكار؛ لأنه احتكار خفيٌّ لا يبين، ولكن آثاره وضرره على المجتمع كضرر الاحتكار سواء بسواء.

 

وقد وصل هذا الاحتكار إلى الطعام، فالدجاج لم يعد يؤكل مِن أي مطعم؛ وإنما من سلسلة المطاعم التي علا اسمها وصارت تملأ البلد، وكذلك السندويتشات السريعة والأكلات الشعبية أيضًا صارت لها سلسلة طويلة وفروعها في كل مكان، فأضحَت الناس تُفضِّلها على غيرها فتشتري منها وحدها، وتدَعُ ما سواها.

 

هذه يا ناس هي الصورة التي تتحوَّل إليها بلادنا الإسلامية: “مجموعة قليلة من الناس يُسيطِرون على التجارة ويفتحون سلسلة طويلة من المحالِّ، فيُهَيمِنون تمامًا على السوق، ويَجذِبون الأموال إلى جيوبهم، ويَقضون على التجارة الصغيرة”، ولاحِظُوا معي أنها طريقة رأسمالية في التجارة، وأنها مُستَوردة وليسَت مِن عاداتنا وتقاليدنا؛ فقد تعوَّدنا على العمل المُحدَّد المَحصور، وكانت الدنيا قائمة على المشاريع البسيطة والدكاكين الصغيرة، وعلى التعاون بين الناس، وعلى المشاركة في العمل وفي تقاسُم الأرباح؛ فيكون في البلد سوق كبير (أو أكثر) يتجمَّع فيه التجار ليَقصِدَهم الناس، ويَعرِضون بضائعهم المُتنوِّعة، وكل مُشترٍ يَجِد ضالته في هذا السوق، وسائر التجار يَبيعون ويربَحون، وإذا تفاضَلوا، وفضل الناس بعضهم على بعض، كان ذلك بسبب حسن معاملتهم أو جودة بضاعتهم (وليس لأنهم أقوى دعاية أو أكبر حجمًا).

 

وبسبب هذا النظام العادل كان أغلب الناس مِن مُتوسِّطي الحال وكفاهم دخلُهم، فأكلوا منه وادَّخروا وتصدَّقوا وسافروا وتمتعوا… إلى أن دخل الطمع قلوب بعض الناس فاحتكروا بعض الصناعات وبعض البضائع وبعض المَصالح، وساعَدَهم جرَيان المال في أيديهم فاستثمروا أموالهم وجاهَهُم في تنمية ثروتهم وتكثيرها، وصاروا يَستورِدون لحسابهم الخاص وبكميات هائلة فرخصت الأسعار عليهم، وصارت لهم متاجر كبيرة يَبيعون فيها بضاعتهم، ويَستقدِمون لها اليد العاملة الرخيصة، ومع مرور الأيام تمَّ احتكار أبواب التجارة كلها، وصار على رأس كل فرع منها تجار أقوياء لا يستطيع أحد منافستَهم، وقد لا يستطيع أحد المتاجرة أصلاً مع وجودِهم!

 

ولتلك الطريقة الرأسمالية في العمل والتجارة تبعات كبيرة، على أن أهمَّها “اختلال التوازن الاقتصادي في المجتمع”، والثروة التي ينبغي أن يتوازَعَها أفراد الأمة انحصَرت في يد قلَّة قليلة وحُجبت عن الباقين، وكثر عدد المُعوِزين والمحتاجين، وتفشَّت البطالة وكثرت ديون الناس، وتضاءلت الطبقة المتوسِّطة في المجتمع حتى كادَت تَنقرِض.

 

وحدَث هذا حين سمع الناس في الإعلان التلفزيوني أن المتجر الفلاني يُقدِّم الهدايا، وأنه يبيع بضائعه بسعر أقلَّ، وأنه وقفة واحدة لجميع المشتريات، وأن له فروعًا في كل مكان، فركَضوا عليه وترَكوا ما سواه، فازدحم المتجَر بالناس يشترون منه بلا تفكير، وصاروا يتسوَّقون منه ما يحتاجونه وما قد يحتاجونه، وما لن يحتاجوه أبدًا! وتكاثروا على الصناديق يدفعون (لهذا الغني) بلا حساب ولا تقتير، فنما المال في يده وعَفا وزاد، وصار المال يولِّد له المال، والمال حين يتجمَّع في مكان فإن الأمكِنة الأخرى تَفرُغ منه، وهذا ما حدث؛ إذ ازداد الأغنياء غنًى، وازداد الفقراء فقرًا.

••••

 

أيها الناس:

والله إن هذا الموضوع مُهمٌّ، بل مهم جدًّا وآثاره خطيرة على مجتمعاتِنا، وإني أُهيب بالمَجامِع الفقهية أن تبحثَه في جلساتها بجديَّة، وتُصدِر إفتاءً يُحدُّ من هذه الطريقة الرأسمالية التجارية، ومن هذا الاحتكار البغيض، وإني مُتأكِّدة بأنها لو أولَت هذا الموضوع حقَّه ودرسته لوجدتْ في الشريعة الإسلامية ما يُقوِّي ما طرحتُه عليكم ويعضِّده، فالأمر فيه شبهة، ولا يمكن أن يكون حلالاً صرفًا بلا شروط ولا قيود.

 

وإني أرجو القائمين على الأمر في كل بلد أن يدرسوا هذا الأمر ويسنُّوا القوانين التي تحمي أصحاب المحلات الصغيرة ورؤوس الأموال القليلة (كأن تمنَع المتاجر الكبيرة منعًا باتًّا وتُغلِقها كلها، وتُحدِّد مساحة قصوى للمَعارِض حسب نشاطها، أو تمنع الإعلانات التي يروج فيها للمَتاجِرِ وأصحابها، وتسمَحُ بالإعلان عن البضائع فقط، ومَن أعجبتْه البضاعة بحَثَ هو عنها، وهذه الطريقة تجعل البضاعة متوفِّرة في كل دكان وبنفس السعر).

 

ويا أيها المُستهلِكون:

إني أُناشدكم ألا تُساعِدوا الغنيَّ ليزداد غنًى، وألا تَترُكوا الفقير يزداد فقرًا، بالله عليكم خُذوا بأيدي الصغار فاشتروا منهم، وقلِّلوا مِن الشراء من الكبار، ولاحِظوا أني لا أطلب منكم الامتناع عن الشراء وإنما التقليل منه، وكل ذلك لصالِحكم؛ لأن الأغنياء إذا ملَكوا تقوَّوا، والقويُّ يتجبر ويتكبَّر على عباد الله، فاحذَروا، احذروا من سطوة الكبار، ومن تبعات العَولمَة.

شاهد أيضاً

هل نعرف حقاً الحكمة من إباحة التعدد؟!

– يقولون أن الله أباح التعدد لأن الزوجة قد تكون عقيماً، وبإباحة التعدد يتزوج الرجل …