نَسِيَتْ شحن موبايله فضربها، تأخرت في إعداد الطعام فضربها، خرجت لزيارة جارتها ضربها.. وللأسف ومع غياب التقوى وازدياد الضغوط، رجع الضرب لمجتمعاتنا العربية بعد أن خفّ كثيراً، وكاد أن يتلاشى، ورجع لأسباب تافهة وفيها ظلم وإساءة، ورجع بقسوة وعنف: وكم من فتاة ماتت من الضرب، وكم من زوجة أصيبت بعاهة مستديمة، أو أصبحت مريضة نفسية (لدرجة الجنون والانتحار).
وأكثره تفشيش وانتقام، فأصبح مؤذياً ومفسداً، وصار يحمل تهديداً حقيقياً للأسرة، ويؤثر بشكل عميق على أمان واستقرار الحياة الزوجية؛ لأنه كما قال النبي عليه السلام: “ولن يضرب خياركم”، وبالتالي كل الذين يضربون بهذا الشكل ظالمون ومجرمون، وينبغي وقفهم.
فهل الضرب مسموح؟ وهل هو مطلوب؟ وهل هو مباح هكذا على الإطلاق؟ وهل يعتبر حلاً صالحاً لكل زمان ومكان؟ ولكل الشخصيات؟
وللخروج من الإشكال هناك من فسّر الضرب بـ”الهجر” و”الابتعاد”، كما اقترح د.عبد الحميد أبو سليمان، وليته كان كذلك، ولكن هذا التفسير لا يستقيم باللغة العربية، لأن “ضرب” تلك تتعدى بحرف جر.
على أن هناك تفسيرات وشروطاً مهمة، وينبغي أخذها بالاعتبار:
أولها: الضرب كان شائعاً ومعتاداً ومباحاً في عصرهم، وكان الوسيلة الوحيدة للردع والعقوبة للرجال والنساء، فلم يكن مهيناً كما هو في عصرنا:
– فكانت الشفاء تقوم بالحسبة، وتضرب الناس في السوق بالدرة.
– وأي مخالفة في المجتمع الإسلامي كان عقوبتها “الجلد في أقل من 10 أسواط”، عقوبة تعزيرية يحكم بها القاضي.
– وروى عمر كحالة في أعلام النساء، أن خالداً في اليرموك سلّح النساء بالسيوف، وأمرهن أبو سفيان بأن يضربن من يهرب بالعصي والحجارة.
واليوم تغير الزمان وأصبحت العقوبة: الحبس أو الغرامات المالية.. وألغي الضرب.
ثانيها: وهو الأهم والأساس “الضرب وسيلة لتحقيق الوئام والتفاهم وليس غاية”
والوسائل تسقط بسقوط المقاصد، إذا تبين عدم الوسيلة لمقصودها بطل اعتبارها.
والضرب الهدف منه “استقرار الأسرة”، ولكن: لكل زمن أسلوبه وطريقته، والعدول عن الضرب لا يعني تعطيل الآية، فهو كمثل قوله تعالى: “وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ”، ومن يُعدُّ اليوم خيلاً للحرب؟!
وهل بقيت القوة والرهبة في الخيل؟! أم تحولت للدبابات والطائرات، ثم تحولت للقوة الناعمة والسياسة والمفاوضات؟! ولا شك أنها أنجح وأقوى طريقة اليوم.
والضرب أيضاً لم يعد مجدياً في عصرنا، وهو ما تنبه له الحطاب (مواهب الجليل 4/15): “وإذا غلب على ظنه أن الضرب لا يفيد لم يجز له ضربها.. فإن المقصود منه الصلاح لا غير”.
وجاءت أحاديث شرعية وأدلة تمنع الضرب، حتى قال بعضهم إن الضرب في القرآن نُسخ في السنة لكثرة ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
1- فلم يضرب قط: “ما رأَيْتُ صلى الله عليه وسلم وسلَّم ضرَب خادماً قطُّ ولا ضرَب امرأةً له قطُّ”.
2- ونهى عنه صراحة: “ولا تَضرِبوا المسلمينَ”، “… فإني نُهيتُ عن ضربِ أهلِ الصلاة”.
3- بل جعل كفارة الضرب العتق لهول الضرب، ففي حديث صحيح: “كنتُ أضرب غلاماً لي. فسمعتُ من خلفي صوتاً (اعلمْ، أبا مسعودٍ! لله أقدرُ عليك منك عليه)، فالتفتُّ فإذا هو رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فقلتُ: هو حُرٌّ لوجه اللهِ. فقال: أما لو لم تفعلْ، للفحتْك النارُ، أو لمسَّتْك النارُ”.
4- وجعل الضرب مشكلة عند أبي سفيان خاطباً، فنهاها عن الزواج منه.
وجاءت آراء فقهية تمنع الضرب.
قال ابن حجر في “فتح الباري” (11/639): “الضرب لا يُباح مطلقاً، بل فيه ما يُكرَه تنزيهاً وتحريماً”.
وفي “أحكام القرآن”: “قال عطاء: لا يَضرِبُها.. ولكن يغضَب عليها”، وعلَّق ابن العربي بقوله: وهذا مِن فِقه عطاء.
وهناك شروط أخرى تحد من الضرب، حتى لتصل به إلى درجة الحرمة والمنع، وهي مهمة، وقلّ من يذكرها:
– حيث قيده الزركشي بألا يكون بين الزوجين عداوة.
– واشترط المالكية والشافعية أن يعلم أو يغلب على ظنه أن الضرب يفيد، وإلا لم يجز له ضربها ويحرم عليه لأنه عقوبة مستغنى عنها .
– ورجح فقهاء الشافعية، وبعض الحنابلة، أنه إن تحقق النشوز ولم يتكرر ولم تصر عليه، فلا يجوز ضربها.
– وعلى زمن الصحابة كانت يد الخياط يد أمانة، ثم أصبح يضمن، ومثله الزوج، لم يعد اليوم كل زوج مؤتمناً.
وفوقها لا يوجد اليوم قضاء عادل يراقب ويحمي، ويمنع التجاوز، وتتأخر المحاكم بالبت، وتذهب الحقوق وتتلاشى. فكان المنع أولى وأحفظ للحقوق والبيوت.
– سد الذرائع حيث أصبح يفضي لشر أكبر، ولذلك يفتون في السعودية بتركه: “الضرب قد يغيرها عليه أكثر، وقد يسيء أخلاقها، ويسبب فراقها، ويثير أهلها أيضاً، ولاسيما في هذا العصر، الضرب في هذا العصر يسبب مشاكل كثيرة.. فإذا كان ضربها يفضي إلى فراقه لها، وإلى قيام أهلها عليه، وإلى حصول مشكلة كبرى؛ فينبغي تجنب الضرب”.
وقال ابن الجوزي في “أحكام النساء (ص82)”: “ليعلم الإنسان أن مَن لا ينفع فيه الوعيد والتهديد، لا يردعه السوط، وربما كان اللطف أنجحَ من الضرب، فإن الضرب يزيد قلب المعرض إعراضاً، (ألا يستحيي أحدكم أن يجلد امرأته جلد العبد، ثم يُضاجعها)، فاللطف أولى إذا نفع”.
– وعلى كل زوج وقبل أن يتعدى ويضرب أن يقوم أولاً بواجباته، وهذه النقطة قلما يدقق عليها أو تؤخذ بعين الاعتبار؛ فالمحاسبة والملاحقة تكون غالباً للمرأة فقط، مع أنه جاء في (ميثاق الأسرة في الإسلام) الذي أصدرته اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل وأعدته لجنة من كبار العلماء في العالم الإسلامي (ص 50): “لا يجوز -مهما بلغت درجة الخلاف بين الزوجين- اللجوء إلى استعمال العنف.. ومن يخالف هذا المنع يكون مسؤولاً مدنيّاً وجنائيّاً”.
وجاء في أحكام محكمة النقض المصرية: “ذلك مشروط بأن يكون الزوج أميناً على نفس الزوجة ومالها، فلا طاعة له عليها إن هو تعمد مضارتها، بأن أساء إليها بالقول أو بالفعل، أو استولى على مال لها بدون وجه حق (جلسة 24/ 6/ 1986)”.
– وقال ابن عاشور إذا كان الضرب إهانة فينبغي الكفّ عنه ومنع العمل بالآية، واستدل بآية الطلاق التي جعلت الفراق حلاً، ولم تذكر الضرب.
ومما لا شك فيه أن الاعتداء الجسدي على الطرف الضعيف بالعلاقة، سينتج آلاماً ومشكلات نفسية؛ فلا ينبغي استعمال قوة الرجل لإهانة المرأة، والحط من كرامتها الإنسانية، بل هي للحماية والصيانة والدفاع عنها. والزوج ليس مُربياً ولا مؤدباً، وإنما هو شريك وقرين، وسكن وملاذ للمرأة.
يتزوج الشاب اليوم فتاة عاقلة ومكلفة وبالغة وراشدة، وتحمل شهادة جامعية، ويرتبط بامرأة جعلها الإسلام راعية في بيتها ومسؤولة عن رعيتها، فلا ينبغي أن يضربها أو يهينها أمام أهله أو أمام أطفالها، وذلك: لكي تبقى لها هيبة ومكانة تستطيع استثمارها حين يغيب الزوج لأي سبب، وإلا كيف ستتمكن من قيادة أبناءٍ لا يحترمونها ولا يجدونها شيئاً؟! وبالتالي سيتعرضون للعقوق أو الفساد وكليهما مُرّ وقاسٍ. فانتبهوا.