من وحي مونديال 2022 وبطولة كأس العالم
أرسلت يوم الإثنين- 19- 12- 2022
تنبهت متأخرة لخطأ فادح نرتكبنه بحق بعضنا بعضاً،
وهو “أننا دأبنا على جعل أنفسنا مسطرة، نقيس عليها ميول الناس ورغباتهم، ثم وبناء
على هوانا نبدي إعجابنا أو سخريتنا مما نراه من سلوك الآخرين”؛ وأقصد بمقالي
هذا فقط “الهوايات” و”الميول”، و”الأمور التي تتعلق بالذوق
والمزاج”، والتي لا تخضع لقاعدة، وبالتالي لا يمكن أن يتساوى فيها الناس، أو
يتفقوا على رأي: فيراها بعضهم عظيمة ويحرص عليها ويترقبها، ويراها آخرون شيئاً
باهتاً لا يستحق هذا الحجم من الاهتمام ويسخرون منها. ولعل هذا يفسر تقاعس بعض المقربين
عن مشاركتنا فرحتنا ببعض إنجازاتنا، أو مشاركتنا حزننا على خسارة ما.
ولتوضيح الفكرة سأضرب مثلاً بنفسي وبكرة القدم:
فالمباريات لم تستهوني يوماً، ولم أحبها منذ طفولتي، وكنت مهما مللت وسئمت فإن
مراقبة كرة تطير بالملعب لم تكن لتسليني، وصوت المعلق وأسلوبه كان يساهم في ابتعادي. وكان هذا وضعي في يوم لم
تكن لدينا سوى قناتان، فكنت أُفضِّل الجلوس بلا شيء على مشاهدة المباراة، وأذكر
أني أردت مرة أن أصف لأختي مقدار ملل صديقتي، فقلت: “تخيلي أنها جلست تتابع مباراة!”.
وكم تفاجأت لما كبرت وعرفت أنها لعبة فاخرة وعالمية، وفي مقالي هذا لن أكتب عن
الكرة لأنها ليست تخصصي، وإنما سأكتب بعض الملاحظات الاجتماعية التي خطرت
في بالي وأنا أسمع تعليقات المهتمين بالمونديال. وهذه الملاحظات متفرقة وقد لا
يجمعها أي شيء سوى أنها من وحي الكرة ومن سلوك اللاعبين والمتابعين. فاعتبروها
ملاحظات من سيدة تحب علم النفس وترى الأمور بعين المُرَبِّية، وعين المهتمة بما
يحدث في هذا العالم من أثر الفراشة، ثم تدون النتائج. فهي خواطر وفوائد، من وحي الحدث، ولعلها تساعد في فهم الحياة وفلسفتها.
فقد تعلمت أن أستفيد من كل حدث، وأتأمل فيه، وأكتب من وحيه أموراً تربوية ودينية، وإضاءات
تفيد بالعلاقات الاجتماعية.
وهذه هي الملاحظات، ويسعدني سماع تعليقاتكم وآرائكم وخبراتكم:
* تعلمت من المونديال
مشاركة الناس فرحهم وحزنهم ولو بكلمة، أو وعلى الأقل الصمت وترك السخرية!
وإني لو كنت بشخصيتي القديمة، ورأيت كيف طار الناس فرحاً يوم فازت السعودية أو
المغرب، لكنت قلت وكتبت: “علام هذه الفرحة العارمة: وكأننا فتحنا الأندلس، أو
استعدنا قطراً سليباً، أو حققنا اكتشافاً على مستوى العالم؟! أعطوا الأمور حجمها،
والفوز بالكرة لا يستحق كل هذا”.
ولكني اليوم قدرت فرحة الناس، وأظهرت للمتابعين الاهتمام، وتقصيت نتائج بعض
المبارايات، وإن كان عن بعد! وتعرفت على شيء من أصول هذه اللعبة، وقد كنت لا أعرف
ما معنى: تسلل أو بلنتي. ومتى يُعطى الكرت الأصفر، أو يُلجأ للضربات الترجيحية…
وإن الكرة “مثال”، والفكرة أني تنبهت لوجوب احترام اهتمامات الآخرين
وهواياتهم ولو لم ترق لي.
* المفاجآت في
المونديال، جَسَّمَتْ الواقع وكيف أصبحت الحياة!
حيث خسرت فرق كان يتوقع منها النجاح، وخسرت منتخبات أمام من هم أضعف منهم عادة، وتأهلت
دول لأول مرة بتاريخ الكرة… هذا ما رآيناه بالمونديال، ولكن هكذا أصبحت الحياة
في هذا القرن، فيأتينا الخير من حيث لا نحتسب، ونرى الأذى أو الفساد ممن كنا نثق
بهم، ونخسر في صفقة كانت مدروسة، ويأتينا رزق لم نسع له…
لذلك أنصحكم بالاستمرار بالعمل والجد، مع الاسترخاء النفسي والتوكل،
وما كتبه الله لكم فلن يخطئكم.
كما أنصح بألا تستعجلوا بالحكم على الأشخاص حتى الذين تعرفونهم، ولا تستعجلوا
بالتوقعات.خاصة السلبية منها، فقط: انتظروا، وستأتي الأيام بما لم تكونوا تتخيلونه.
* الاعتدال في كل شيء، حتى بالفرح، أي “هوناً ما”
وهنا، وفي هذه النقطة: “أحتاج رأيكم وخبرتكم”،
فهل يا ترى كان من الصواب هذه الفرحة العارمة والاحتفالات الهائلة عند الفوز في
الربع الأول من المونديال؟
وأقصد حين: لا زالت المنافسة في البداية، وعلى أشدها؟
وصحيح أن الفوز على منتخب قوي أمر رائع ونقطة جديرة بالتسجيل، وتستحق الشعور
بالفخر والسعادة، ولكن: أليس الأفضل ترك الإشادة والمديح للمراقبين وللحكام
وللجمهور، لتكون أقوى؟!
ذلك أن الهزيمة -فيما بعد- وأمام فريق أضعف، قد تجلب الخزي والحزن أيضاً. فالأيام
دول، وسرعان ما يصعد قوم، وينخفض آخرون، ولا تدوم النجاحات لأحد، فافرحوا واحتفلوا
في حياتكم الشخصية، ولكن لا تبالغوا. وأما الفخر فيفضل أن يؤجل لحين الحسم والوصول
للنهاية.
* ولفت نظري كيف أصبح
الصواب نادراً ومبهراً
وذلك حين حاز الجمهور الياباني على إعجاب الجميع لأنه حافظ على عاداته وتقاليده أو
بالأحرى عادة احترام المكان وقام بتنظيفه قبل المغادرة. فكتبوا عنه بالمواقع
الأخبارية!
والتعليق:
من المؤسف أن تتحول البديهيات والأساسيات لفضل يفعله شعب واحد فقط، فنفاجأ ونشكره عليه… بدل أن يكون الأصل والسلوك الطبيعي السائد. خاصة في بلد عربي ومسلم، وأكثر جمهوره عربي ومسلم، وإن إماطة الأذى عن الطريق صدقة، فما حكم من يرميها؟!
***
على أني ورغم تقبلي لحب الناس لهذه الرياضة، لا زلت أتحفظ على أمور لا تتعلق
بالناحية الذوقية، وإنما بجوانب أخرى:
* الأول نفسي- ويتعلق
بالخسارة وآثارها النفسية المدمرة…
وطالما سمعنا عن الروح الرياضية التي تتقبل الهزيمة بابتسامة وتفرح لمن ينافسها،
ووجدنا حقاً من تحلى بها. ولكن رؤيتي لرجال وهم يبكون في المدرجات كانت مؤثرة
جداً… وكله من أجل لعبة وُضعت أصلاً للتسلية، وليتها بقيت كذلك.
وإني حين رأيت بعض اللاعبين وهم يبكون بعد خسارة منتخابتهم، وبعد أن أبلوا بلاء
حسناً، تذكرت قول الشاعر:
إنّ حزناً في ساعة الموت .. أضعاف سرورٍ في ساعة الميلادِ
فأنا كأم ومربية أصبحت
أتحفظ على المسابقات التي تهدف لوصول واحد فقط للفوز ويحظى البقية بالخسارة. ولا
شك أنها تهز الروح الرياضية عند بعضهم مهما كانت معنوياتهم قوية، وتكرس للأنا
ولإقصاء الآخر… فحين لا يصل للمونديال إلا 32 فرقة، ثم لا يصل للكأس عملياً إلا
واحدة، فهذه مسابقة قاسية وصعبة، والخاسرون فيها كثيرون، والأربع سنوات للفرصة
التالية بعيدة.
فانتبهوا لهذا مع صغاركم وطلابكم، واعتمدوا المنافسات التي
تهدف لتنمية مهارة، فلا تهتم بوصول فائز واحد، وإنما ترعى كل شخصية تثبت قدرة
وجدارة
في مجال ما.
* الثاني ديني اقتصادي وهو:
البذخ والإسراف.
وقد تبدو هذه الألعاب وغيرها، أنها منافسة شريفة، ومشاركة عالمية، ولعبة ممتعة
تجمع سكان الكرة الأرضية على حدث واحد، ولكنها بالحقيقة تحولت لتجارة واعدة، ولذلك
تتسابق الدول لاحتضانها، وتبني ملاعب، وتعد فنادق، وينتعش الطيران (وهذا من جانب
الدولة المضيفة).
وأما من ناحية الفرق الرياضية: فتُدْفع عليها مليارات الدورلات خلال التدريب
والتجهيز، وتُعطى للاعبين رواتب خيالية، ولأن الحياة الكروية للاعب قصيرة، فتحتاج
لتجديد الطاقم خلال سنوات قليلة، مما يزيد الإنفاق عليهم.
وإنه وحسب إحصاءات رسمية “المونديالات مكلفة جداً”، وتحتاج في بعض
البلدان لبنية تحتية متكاملة، تتضمن شبكة طرق ومواصلات داخلية، فهل ستستفيد منها
الدولة أو سكانها بعد انتهاء المونديال؟ أم هي لمرة واحدة فقط؟! وهل ستستفيد البلد
من العدد الكبير من الفنادق والملاعب الجديدة التي أنشأتها لاستيعاب الزوار؟
فعلى سبيل المثال، احتاجت أميركا إلى إنفاق المليارات لتطوير ملاعب كرة القدم فيها، ولأن الكرة ليست اللعبة الشعبية الأولى فيها، لم تُستخدم هذه الملاعب على نحو فعال بعد انتهاء المونديال.
ولو أن بعض الدول (خاصة التي تعرف أن فوز فريقها بالمونديال
مستحيلاً) وزعت هذه الأموال على تنمية مواهب الفقراء وعلى تدريس النوابغ منهم في
الجامعات، لكان عائد ذلك أكبر وأعظم، ولسجلت هذه الدول نبوغاً في مجالات ثقافية
علمية (بدل الكرة)، فمجال المنافسات متنوعة، وليس ضرورياً أن نحصره بالكرة: ولو
أقيم بهذه الأموال مشروع يستفيد منه العامة، لكان أنفع للناس جميعاً. ولذلك ما زلت
أعجب حين أرى بعض الدعاة والمؤثرين كيف يتابعون المباريات ويُرَوِّجون لها، ولا
ينتبهون لتلك الأبعاد.
وبالطبع من حق الناس جميعاً الاستمتاع بمتابعتها ومشاهدتها، على أن الأفضل أن يكون
ذلك على النصت، حتى لا يكونوا وكأنهم يجعلون للكرة شأناً مهولاً؛ وبالتالي يكون على
الجميع الاهتمام بها ومتابعتها، ليواكبوا المؤثرين والقدوات.
والفكرة: كثيرون لا يهتمون للمباريات، فإذا رأوا الاهتمام
العالمي، وخاصة من المشاهير والمؤثرين، ومن الدعاة: انساقوا معه، وهذه القضية
الأساسية.
وإني أؤكد هذه المعاني شفقة على الفقراء الذين حُروموا من متابعة المونديال كاملاً
بسبب اشتراكه الغالي، وهؤلاء يحاولون التأقلم مع ظروفهم البئيسة فتأتي المغريات،
ومن منشورات المؤثرين فيتوقون للمتابعة.
و”لا شيء للفقراء” كان هذا عنوان مقالة كتبتها من
قديم، أتحسر فيها على الذين يعشقون المباريات، فحُرموا منها لما شفروها وفقدوا
وسيلة تسلية وترفيه أساسية، فالاشتراك مرهق وغال، والقهاوي التي تبثها تطلب أجرة عالية.
* الثالث شرعي- ويتعلق بزي
ولباس الفرق الرياضية
حيث كنا كلنا فخورين بالصورة المشرقة النظيفة التي قدمها المونديال وهو في دولة
عربية وإسلامية، وكم أعجبتنا الصرامة في منع المخالفات الشرعية، وكانت هناك لحظات كثيرة
مؤثرة تجلى فيها اللجوء لله عند احتدام المنافسات، والسجود له شكراً عند الانتصار،
وتقدير الأمهات… ولكن ما زال يلفت نظري إهمال الدعاة للكلام عن “عورة
الرجال”، التي ينبغي أن تكون من السرة إلى الركبة، فقد تعودنا منهم الصرامة في
الحرمات، والشدة بالاستنكار، والتعليق حتى على الأمور الصغيرة، فعلام يسكتون دوماً
عن عورة الرجل؟
وإذا كانوا يأخذون بالرأي الذي يقول “يجوز كشف الفخذ”، أفليس للرجل عورة
أمام المرأة؟ أو ليس هناك حياء، خاصة وأنهم يلعبون أمام الملايين، ويقعون أرضاً
ويتكشفون؟!
ولا تنسوا أن النبي صلى الله عليه وسلم تميز بالحياء وفخر به وثمنه وحث عليه،
وجعله خصلة محمودة بالرجال كما النساء.
والرابع شرعي إنساني: وهو تقدير الأم واحترامها
والاعتراف بفضلها
إذ قرأت على وسائل التواصل اعترافات مثيرة، مثل:
“نحن المغاربة نحب الاحتفال مع أمهاتنا”. وقرأت: “ولقد عكست الصور
ومقاطع الفيديو عمق ارتباط نجوم “أسود الأطلس” بأمهاتهم، حيث حرصت فاطمة
والدة الركراكي أن تحضر لتكون إلى جانب ابنها في فعاليات كهذه. وصعد اللاعب أشرف
حكيمي إلى المدرجات ليتلقّى قبلة الفخر على خده، فشدّ عدسات الكاميرات ولفت
الأنظار”.
وهكذا صنعت أمهات المنتخب المغربي نكهة حلوة لم تكن متوقّعة، وأعادت ترسيخ صورةٍ
جذّابةٍ للأسرة العربية. وكانت لقطات مؤثرة، حتى
لأصبح الجمهور ينتظرها عقب كل مباراة.
وكم نتمنى أن يتمثلها الجميع مع أمهاتهم، ثم يكونوا هكذا مع زوجاتهم، وأقصد تلك الخصال الحميدة: الوفاء والاحترام والتقدير.
ولقد قرأت عن أمهات كان لهن الفضل الأكبر في وصول أبنائهن للنجومية، منهن والدة اللاعب سفيان بوفال التي روي أنها كانت تهمس له كل يوم، وطوال تسعٍ وعشرين عاماً، كانت أنه قادرٌ على تحقيق الانتصارات… فاحتفل بالنصر -وأمام آلاف المشاهدين ومئات العدسات- بإمساكه بيدها مثبتاً التأثير الإيجابي والدعم الكبير الذي قدمته له.
وما أروع تلك الأم التي تدفع أولادها للنجاح، بما تبثه فيهم من عزيمة، على أن الأروع نسبة الفضل لأهله، والاعتراف بتضحيات الأمهات، وأن الفضل يرجع لهن بكون أبنائهم نجوم في كرة قدم. ، فهذا يدل على مروءة ونخوة، وما أعظم خصلة الوفاء.
وفي مقالٍ بعنوان
“أمهات اللاعبين يحتلون مركز الصدارة بينما يصنع المغرب التاريخ في كأس
العالم”، اعتبرت “ذا غارديان” البريطانية أن تألّق المنتخب المغربي
ووصوله إلى نصف النهائي كان -بجزءٍ منه- بفضل دعم الأمهات ووجودهنّ.
وهكذا وبشكل عام تبقى الأم هي المشجع والداعم الأول لأولادها في كل مناحي الحياة،
وفي كل المجالات. ونتمنى أن تبقى كل أم متابعة ومشجعة ومعينة لأولادها في المجال
الذي يتوقون إليه، فتشاركهم فرحهم بنجاحاتهم، وتحزن معهم عند إخفاقهم، وأهمه أن
تدفعهم للمحاولة من جديد.
وكل مونديال وأنتم جميعاً بخير.
عابدة المؤيد العظم