“لا تدافعي ولا تدافع عن نفسكَِ”درس تعلمته من الحياة، وسأفيدكَِ منه.والمقال مخصص للشخصية التي تُتهم وهي بريئة وراقية، ومشغولة بالمعالي (وغافلة عن كيد الحاسدين)، فتجد نفسها فجأة حديث الموسم.

ولقد نشرتُ من قريب فيديو قصير بهذا الخصوص على حساباتي على وسائل التواصل، بنفس العنوان “لا تدافعي عن نفسك”، وقلت فيه:
تقبض الشرطة على المتهم وتكرر: “من حقك التزام الصمت، وكل كلمة تقولها ممكن تستعمل ضدك”… كلمات بقيت زمناً أراها روتيناً وطقساً فارغاً يحرم المتهم من الدفاع عن نفسه وإبداء أعذاره؛ يعتقلونه وهو غافل لاه، ويضعون الحديد في يديه ويسحبونه إلى السجن، ويمنعونه فوقها من الصراخ: “أنا بريء”! وكيف تستعمل (كلمة طيبة مثل “أنا بريء” ضده)؟

وكالعادة جاء يوم فهمت به السر (وكذلك المرء يتساءل عن أشياء كثيرة، وكلما كبر وخبر الحياة فهم الكثير مما غُمَّ عليه من قبل).
ويحدث نفس الشيء تماماً إذا وقع الشقاق وسوء الفهم، ونزغ الشيطان بين اثنين، ووضع أحدهما موضع الاتهام… فكل كلمة يتفوه بها (سواء ليدافع عن نفسه أو يطيب الخواطر) تصبح ضده وتنقلب عليه.

مهما انتقى كلماته ومهما كان متعاوناً وسمحاً.

فإن قال: “والله يا فلان أنا أحبك”، فيصرخ الخصم: “لو كنت تحبني مافعلت بي هذا”.

ولو قال له: “أنا آسف أرجوك سامحني” فيرد: “إذن تعترف أنك أخطأت بحقي فكيف تخطئ هذا الخطأ الشنيع وكيف تتوقع مني غفرانه لك”

وإذا قال: “ألا تذكر الخبز والملح الذي بيننا واللقاءات الرائعة في بيتي”، فيغضب الآخر: “أبلغت بك أن تحسب علي اللقمة وتمن علي أيضاً بما قدمته، لو عرفت هذا لما أكلت طعامك ولا دخلت دارك”

ولو قال: “اخز الشيطان، واسمعني وافهمني”، فيستثار الرجل “وتتهمني بالغباء، وصلت معك الخصومة إلى هنا”.
ويحدث هذا حين يكون الخلاف وسوء الفهم فقط بين اثنين، فكيف إذا شاع وانتشر؟ وذهب كل واحد منهما باتجاه ليُشوه سمعة الآخر، ويغتابه؟

والخلاصة “لا فائدة من الكلام، وأنصح بالصمت… ليس إلى الأبد وإنما مدة من الزمن (ريثما تهدأ النفوس)، وبعدها يتدخل طرف ثالث (كما يتدخل المحامي في المحاكم)، أو تبدأ العلاقة بالعودة تدريجياً حتى ترجع لصورة مقبولة.


ورغم أني شرحت بالفيديو السبب، إلا أن الناس تعجبوا مني؛ وسألوني كيف لا ندافع عن أنفسنا إذا اتهمنا؟!

وسأفصل وأشرح في هذا المقال، وأبدأ بمقدمة أقول فيها هناك حالتين:

الأولى- لو كانت التهمة “قضية” يترتب عليها حكم وعقوبة أو جزاء مادي، أو ظلم كبير واضح بَيِّنْ، ويمكن حلها بالمحكمة أو بغيرها… فهنا ينبغي الدفاع عن النفس والمال والعرض، واتخاذ الإجراءات اللازمة.
أو لنقل إذا كانت تهمة كبيرة، وكانت لدينا أدلة واضحة ومقنعة، وقاض عادل، ومحام صادق وقوي بالحق، فيمكن أن نتكلم وندافع، ونسترجع حقوقنا.
والثانية- وهي الحالة السائدة، وفيها نتعرض للظلم والقهر والتبلي والتحزب والنبذ، بسبب أمور معنوية، فلا يمكن ردها بأدلة قاطعة: وذلك حين يتقولون علينا، أو يفهمون منشورنا بشكل خاطئ، أو يفسرون سلوكنا بسوء ظن، أو يعرفون عيباً فينا أو نقصاً فيزيدون عليه، ويبالغون فيه ويجعلونه وكأنه كبيرة، ويغتابوننا ونحن لا ندري…

فهي اتهامات باطلة، وظنية ولها علاقة بالمشاعر ولغة الجسد، كأن يقال: فلانة حسودة وكاذبة وتكيد بالخفاء، فلان خبيث ومتكبر ويدعي ما ليس فيه… فهي تهم معنوية، وإنها وإن كانت مؤلمة جداً ومسيئة، وتمس سمعتنا ومكانتنا، وقد تؤثر على زواجنا وعملنا ومكانتنا… إلا أنه من الصعب ردها، ومن الصعب نفيها…

وهنا وفي هذه الحالة أنصح ومن تجربتي، ألا ندافع عن أنفسنا. لعدة أسباب:
1- نفي التهمة فيه ضمنياً إثبات لها!
ولذلك تجاهلها أفضل، وعدم الرد عليها سوف يُميتها.
وصحيح أن قصتكَِ قد تكبر وقد تنتشر (ولو صمتَِ)، ولكن اطمئنكَِ:
نحن نعيش اليوم في عصر الفقاعات
، وكل قصة ستنتشر هنا وهناك وتكبر… ثم تموت فجأة، خاصة إذا ظهرت للسطح قصة أخرى لشخصية غيركَِ.
أقصد:
الناس سينسون قصتكَِ، وحدهم، فلا نجهد أنفسنا بتصليح الصورة. بل الصحيح والصواب أن نهتم بسلوكنا وبنجاحاتنا، وهو كفيل وحده، ومع مرور الزمن، بأن يُنسي الناس ما قيل عنا. 

2- الناس اليوم مشغولون بهمومهم، وحين تلصق بكَِ تهمة، فإن كثيرين لم يسمعوا عنها، ولن يسمعوا عنها، وقد تمر العاصفة ولا يعرفون نهائياً بشأنها، ودفاعكَِ عن نفسكَِ سيجعلهم يعرفون عنها منك أنت شخصياً، وهذا سيساهم في نشرها، فتكثر الإشاعات والأقاويل عنكَِ، وهذا ليس في مصلحتكَِ.
أو وعلى الأقل فيه إحياء لها، والسماح للجميع بتداولها والخوض فيها، وتمكينهم ليلوكوا قصصكَِ، ويتجسسوا عليكَِ، ويتسقطوا أخباركَِ، ليكونوا قضاة عليكَِ، ولينال أعداؤكَِ منكَِ!

فلا ينبغي تمكينهم من ذلك.
وإنهم حين يحاولون تسقط أخبارك، ويجدونك طبيعية تماماً وتمارسين حياتك، فسوف يتشككون بمصدر الخبر، ويراجعون أنفسهم.

3- من الاستحالة الوصول لكل شخصية سمعت ما قيل عنكَِ، وتوضيح الحقيقة لها.

وصحيح أن هناك منصفين سيتحمسون لنصرتكَِ، ومحامون سيدافعون عنكَِ مجاناً، ودون توكيل منكَِ، بل دون علم منكَِ، ولكن لا تنسوا:
أن لكل منا أعداء سيصطفون هناك مع الاتهام، لينالوا منا… فالأفضل حرمانهم –قدر الإمكان- من التشفي فينا.

4- لن يصدقكَِ أكثر الناس ولو دافعتَِ عن نفسكَِ.
فأكثر الناس إمعة وبلا شخصية (وهم يظنون في أنفسهم الاستقلالية)، ويقتنعون بمن تكلم أولاً ويصدقونه، وتترسخ الفكرة عندهم:
فحين يلصقون بكَِ صفة ليست من شيمكَِ، أو تتهم وتتهمين بسلوك مشين لم يصدر عنكَِ، فإنكَِ مهما قلتَِ ومهما بررتَِ، ومهما أثبتتَِ… فإنه من الصعب محوها.

وإذا كان للشخص المسيء وجاهة عند الناس، فسوف يصدقونه هو لا محالة. كما أن الناس يصدقون الأب ضد الابن، والغني ضد الفقير، ومن يعرفونه ضد من تعرفوا عليه حديثاً… ولا يحصصون ولا ينتبهون، فلا جدوى من محاولات إقناعهم.

5- الذين يتبلون على الآخرين “خبثاء” و”ألحن بحجتهم” كما أقر النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يستطع النبي كشفهم وقال أنه سيحكم لهم، فكيف سنتمكن نحن من كشف المسيء وفضحه والدفاع عن أنفسنا؟!

6- وإن الذي يتبلى على الآخرين ويتهمهم بما ليس فيهم، يستعمل الكذب والكيد ويشهد زوراً، ويبدل القصص ويشوه الحقائق… فكيف سأستطيع الدفاع عن نفسي، وهو مستعد لرد كل حجة آتي بها بكذبة أخرى، وأدلة جديدة ملفقة؟!

7- الذي يصدق كل ما يقال عنكَِ، ويتخذ موقفاً عدائياً، فهو:

إما (1) سيء وحقود، أو (2) بلا عقل ولا فكر، وكلاهما لا فائدة ترجى من إقناعه.

فالحاسد يسلخنا بما ليس فينا، والأهبل يصدقه، والمكيود يساهم معهم، والذي يشعر بالنقص سترتفع معنوياته حين يجد من هو دونه.

وإذا كان المسيء من المقربين منكَِ ويعرف حقيقتكَِ، فذا ينبغي الابتعاد عنه والحذر منه، بدل محاولة توضيح الصورة له.
ولعلها فرصة لنميز من يحبنا ممن يبغضنا، أو من يريد لنا الخير، ممن يضمر الشر لنا.
بالإضافة أن من يصدق كل ما يسمع سطحي، وقدراته العقلية محدودة، ولا خير فيه، ومحاولتكَِ إقناعه تجعله يتخذ من كلامكَِ حججاً إضافية لإدانتكَِ، وأنتَِ هدفكَِ العكس!

وإذا كان من معارفنا فهو غير وفي، وقد كان المنتظر منه أن ينصركَِ ظالماً أو مظلوماً.
8- كلما دافعتَِ عن نفسكَِ، وانتهيت، فسوف تأتيكَِ تهم أخرى، ومن غير المعقول التفرغ للرد عليها.

9- للأسف أكثر من يؤذينا هم من المقربين منا، فإذا عدموا الوفاء والمودة والمرحمة فلا خير فيهم. وإذا افتقدوا العدالة فلا فائدة من مخاطبتهم.
وإن هؤلاء بيننا وبينهم رحم وعلاقات. فليس من المروءة ولا من النخوة أن ننشر خفايا العائلة وتاريخها والحزازات التي فيها، ونقائص وعيوب ذوينا، لندافع عن أنفسنا…
وإن من يُشهّر ببنته أو أخته، ومن تُشهر بزوجها أو طليقها… فإنه مختل الشخصية، وإنهم حين يتبلون علينا بأمور لم نفعلها يكونون مرضى نفسيين، أو غلبتهم الغيرة وأكلهم الحسد، فيشعرون أننا لا نستحق ما وصلنا إليه من مكانة أو فضل أو تأثير أو محبة أو وجاهة أو حظوة عند زوج أو مال، فيكيدون لنا.
وإذا كان ما يقولونه عنا حقيقة، فالعاقل يستر، لأنه يعلم أن الكلام بالسوء يضر العائلة كلها (لأنها تبقى في أعين الناس جزءاً واحداً). وعليه اللجوء للعلاج بدل التشفي والانتقام، فهذا سلوك الحاقدين، وليس المحبين المصلحين.
ولدي نصيحة أخيرة واكتشاف علمتينه الحياة:
لا تصدقوا مقولة “امش عدل يحتر عدوك بك”، فلكل منا أعداء مهما كنا أوفياء ومستقيمين ومتقين؛ فالغيظ والحقد (مع اختفاء التقوى)، يجعل بعضهم مستعداً لتدبير أي شيء، للنيل من البريء الخلوق المستقيم، وتلفيق تهمة بشعة مغرضة له، هذا الواقع في العلاقات الاجتماعية المتنوعة.

والكيد وتشويه السمعة يكون بين أقرب الأقرباء، ولذلك يصدقهم الناس، ويقولون لقد شهد شاهد من أهله.

والحل:

  • الثقة بالنفس.

وإياكم أن تصدقوا كل ما يقال عنكم، فأكثر الناس لا يخافون الله؛ فيكذبون ويفترون.
– الابتعاد عن هذه الأجواء، ورفض سماع هذه التلفيقات.

وإذا صدف وسمعتم، تناسوا، وتظاهروا بعدم المعرفة، وكأن الأمر لا يعنيكم.

– الاستمرار بالعمل والإنجاز، والاتجاه للمعالي.

فإن أكثر ما يغيظ هؤلاء هو اللامبالاة، لأن هدفهم الأساسي النيل منا وإزعاجنا، فإن لم نوصلهم إليه نجحنا وفشلوا… ولا بد أنهم سيملون يوما ويتوقفون.

وختاماً أؤكد: ما أقوله ليس غريباً لأنه يوافق موقف السيدة عائشة وقت حادثة الإفك؛ حين قالت: “إن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني، فوالله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف حين قال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ”.

شاهد أيضاً

لا يجوز ضرب الزوجة

نَسِيَتْ شحن موبايله فضربها، تأخرت في إعداد الطعام فضربها، خرجت لزيارة جارتها ضربها.. وللأسف ومع …