دع اللعب فقد كبرت عليه

تستهجن بعض الأمهات أن يلعب أولادهن الذين اقتربوا من البلوغ بأي لعبة (رغم اختلاف الألعاب وتنوعها لتناسب كافة الأعمار)، فهي تحسب أنهم صاروا رجالاً، والرجال لا يلعبون أبداً، فإذا رأت ولدها يلهو بسيارة صغيرة وبخته قائلة: “لقد كبرت على اللعب، أم ما زلت ترى نفسك صغيراً!؟” وإذا حملت ابنتها لعبتها وتخيلتها -كما كانت تفعل سابقاً- وليدتها صارت أضحوكة، وإذا فكر الولد بشراء مسدس أو سيف من دكان الألعاب ليتسلى به ويلهو استهزأت به أمه، وسخر منه أبوه، على اعتبار أن زمن اللعب قد انتهى وجاء زمان الجد والعمل حيث اقترن مفهوم اللعب في أذهاننا بالطفولة المبكرة فقط، وهذا خطأ، وهو يجعل لهذه العبارة وأمثالها بعداً خطيراً من وجهين:

الأول: أن ترديد هذه العبارة يجعل الأمور تختلط  وتتشابه على الولد، فيظن أن عليه اعتزال اللعب بأنواعه وترك اللهو كلياً حتى يرضي والديه ويثبت لهما أنه صار كبيراً، وهذا غير ممكن وغير مقبول؛ فالإنسان عامة بحاجة إلى الحركة والنشاط والترويح عن النفس ولا يتحقق هذا للولد إلا باللعب. وقد أجاز الإسلام اللهو للرجال الكبار فكيف بالصغار الذين لم يبلغوا بعد مبلغ الرجال؟! يقول علي كرم الله وجهه: “روحوا القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلب إذا أكره عمي”، فاللهو لا يتنافى مع الرجولة، وقد أجاز النبي r اللهو واللعب للصحابة وفيهم حبر الأمة وأمينها وفيهم كتبة الوحي… فروى البخاري: “كان أصحاب النبي r يتبادحون (يترامون) بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال”، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يتسابقون على الأقدام، وكانوا يتبارون برمي السهام بعد صلاة المغرب، وقد صارع النبي r “ركانة” أكثر من مرة وصرعه، وأباح بعضهم اللعب بالشطرنج بشروط… فلا تثريب على المسلم رجلاً أن يمرح ويتفكه، والولد بحاجة إلى الترفيه واللهو واللعب أكثر من الكبير وإن بلغ أو قارب البلوغ، وقد كان النبي r وهو المربي والقدوة الصالحة يلاعب أبناء الصحابة، ويروح عن نفوسهم، ويدخل السرور عليهم، ويمرح معهم، ويستأنس بهم، ويشجعهم على اللعب البريء والمرح المباح!![1] وقد جاء في الحديث الصحيح: : “علموا أولادكم السباحة والرماية…” فأطلق النبي r كلمة “أولادكم” ولم يقيدها بعمر محدد، فإذا رغب الولد الكبير باللعب وتاق إليه فلنتركه يلعب ما يحبه، ولندعه يصرف طاقته باللهو المباح بجرأة ودون حياء فهو لا يقوم بعمل محرم ولا معيب بل هو يروح عن نفسه ويستعيد نشاطه وحيويته، ويطرد السأم والملل ليستأنف العمل الجاد والكدح من جديد: فالسباحة والسباق رياضة تفيد الجسم وتقوي العضلات وتشحذ الذهن، والألعاب الأخرى توفر بعض  المهارات للولد؛ فالرمي يعلمه إصابة الهدف، والمصارعة تعلمه كيف ينال من السفهاء والمعتدين…

والثاني: أن هذه العبارة لا تقتل الرغبة في اللعب عند الولد، ولا تضع حداً لميله الغريزي والطبيعي إلى اللهو، ولا تقنعه بأنه صار كبيراً، إنما تسبب له الأذى والحرج حين تجعله يكبت رغبته تلك ويخفيها، فيبتعد عن اللعب خوفاً من سماع عبارات النقد والاستهزاء. وهذا أمر غير محبذ لأنه يبقي في نفس الطفل رغبات لم تشبع وبقايا طفولة لم تراعى فيشب ويصبح أباً وهو يكبت هذه الرغبات في نفسه فإن سنحت له الفرصة أو مر بظروف مساعدة برزت هذه الرغبات المكبوتة إلى السطح فينسى نفسه ويندفع لا شعورياً لإشباع هذه الرغبات الدفينة بطريقة صبيانية، فتبدو تصرفاته مضحكة وغريبة وهي تصدر من رجل كبير.

فلماذا نخالف السنن وقد خلق الله الإنسان ليكون طفلاً ثم صبياً ثم شاباً ثم رجلاً؟ ولم لا نساير هذا التطور ونترك للولد فرصة الاستمتاع  ثم الإشباع من كل مرحلة من مراحل حياته؟ ولماذا نمنعه من اللعب مستعجلين صيرورته رجلاً، ونحن نعلم أن كل آت قريب؟! فكل الأولاد يمرون بهذه التغييرات وينتقلون من مرحلة إلى المرحلة التي تليها بشكل تلقائي حتى يصيروا آخر الأمر رجالاً، ولكن هذا الانتقال يخضع للفروق الفردية؛ ولذلك قد تطول مرحلة اللعب الطفولي عند أفراد أكثر من غيرهم، وهذا طبيعي وهو أمر عادي وشائع، فلنطمئن تماماً ولندع القلق جانباً إذ ما رأينا في عالمنا رجلاً بالغاً عاقلاً راشداً يلهو بسيارة صغيرة ولا بغيرها من الألعاب الكثيرة؛ فالولد يميل غريزياً إلى الألعاب التي تتناسب مع عمره وميوله ويدع ما سواها، وهو يكبر تدريجياً، وينعتق خلال ذلك من عشقه للعب ويتحلل من حرصه على اللهو شيئاً فشيئاً، وكلما كبر ترك ألعاب الطفولة -وحده، ودون توجيه- مستبدلاً بها ألعاباً تتناسب أكثر مع نمو مقدراته واتساع تفكيره، ولأجل  هذا كانت فنون اللعب وأشكاله وأنواعه مختلفة ومتغيرة لتتتاسب مع هذا التطور، ويستمر هذا التطور حتى يدع الولد يوماً ألعاب الطفولة كلها إلى غير رجعة، ويحتفظ فقط بحقه في الترويح عن نفسه، فهو يدرك مع الأيام (وبفضل التوجيه والتربية) مسؤولياته الجسيمة فينظم وقته، ولا يلهو لهو الرجال (المباح شرعاً) إلا بمقدار، وبعد أن يقوم بواجباته ويؤدي أعماله. ولنا أسوة في السيدة عائشة التي كانت تلعب ببنات لها مع صويحباتها، ولم تكن عندها طفلة إنما كانت امرأة بالغة ومتزوجة وعليها مسؤوليات، ومع ذلك ما عاب النبي عليها ذلك، بل كان يتركها لتشبع حاجتها إلى اللعب، ويشجعها هي وصاحباتها على المضي في اللهو: “كنت ألعب بالبنات عند r في بيته، وهن اللعب -أي: البنات هن اللعب المصنوعة من الأقمشة- وكان لي صواحب يلعبن معي، وكان النبي إذا دخل ينقمعن منه -أي يتغيبن ويدخلن وراء الستارة- فيسربهن إلي -أي يردهن إلي- فيلعبن معي”[2]، الأمر الذي يدل وجوب الاهتمام بالرغبات الفطرية وتوفيتها حقها… فلما أشبعت السيدة عائشة حاجتها إلى اللعب وكبرت عن هذه الرغبات الطبيعية انصرفت وحدها عن هذا والتفتت إلى غيره من الأمور العظيمة والمهمة فكانت بعد  ذلك عالمة وفقيهة ومحدثة.

اللعب إذن ليس شيئاً عديم النفع والجدوى، وإن مرحلة الطفولة التي تمتع الإنسان وتمده بهذه الفوائد، لا تكون إلا فترة محدودة من الزمن، ولا تكون إلا مرة واحدة في حياة الإنسان فاتركوا أولادكم ليشبعوا حاجاتهم ورغباتهم، ولا تعكروا سعادتهم ولا تضيعوا عليهم فرصة الاستمتاع بالبقية الباقية من طفولتهم وصباهم بترديد هذه العبارة: “لقد كبرت على اللعب، أم ما زلت ترىنفسك صغيراً!؟”. فإنهم يكبرون بسرعة بل بأسرع مما نتصور.

(العبارة التاسعة من كتابي “عبارات خطيرة”)

***

 

[1] عبد الله ناصح علوان: تربية الأولاد في الإسلام ج2 ص1015.

[2] أجرجه الشيخان.

شاهد أيضاً

من وحي المونديال

من وحي مونديال 2022 وبطولة كأس العالم أرسلت يوم الإثنين- 19- 12- 2022 تنبهت متأخرة …