“أمي، أريد أن أذهب مع أبي الى السوق”، فتجيب الأم: “لا”، فتُحاجِج البنتُ ذات الخمسة الأعوام الأم بقولها: “ولكنَّ أخي الصغير ذاهب معه!”، فتعلق الأم: “هو يستطيع الذهاب؛ لأنه صبيٌّ، أما أنتِ فلا؛ لأنك بنت”!
“أمي، أخي يرفض أن يشاركني الركض واللهو معه في الحديقة، أرجوك قولي له أن يفعل”، الأم: “لا، لن أقول له؛ لأنه لا يُمكنك مشاركته اللعب؛ فأنت بنت”!
“أمي، أريد أن أسبَحَ في ماء البحر مع أخي”، فتقول الأم: “لا يُمكنك السباحة أمام الناس”. البنت الصغيرة: “ولكنَّ أخي يسبح أمام الناس!”، الأم: “هو يُمكنه ذلك لأنه صبي، أما أنت فلا؛ لأنك بنت”!
“أبي، أريد أن تَشتري لي سيارة صغيرةً كما اشتريتِ لأخي لألعب بها فهو لا يُعيرني سيارته”، فيجيبها الأب: “ماذا، سيارة لك؟! لا يُمكن ذلك؛ فأنت بنت! العَبي بالدُّمى، واتركي السيارات لأخيك”!
“أبي، أريد أن أُشارك رفيقاتي في رحلة نظَّمتها المدرسة إلى مصنَعِ العطور”، فيرد الأب بلا مبالاة: “كم مرة قلتُ لك: إن البنات لا يذهبْنَ في رحلات مدرسية”، “ولكن أخي ذهب في رحلة قبل أيام قليلة!” فيرد الأب: “هو صبي بإمكانه الذهاب، وأنت بنت”!
هذه المشاهد الصغيرة تحدث يوميًّا في بيوت كثيرة، فكلَّما همَّت البنت بأمر مُنعَت منه لأنها بنت، في حين يتمتَّع أخوها بكل شيء، ويُسمَح له أن يفعل ما يشاء، وقد يكون أخوها ذاك أصغر منها بسنوات، أو قريبًا من سنِّها، فماذا تتوقَّعون أثر هذه العبارة على البنت وهي تسمعها منذ مولدها وحتى موتها، وتَسمعها وقد اقترنت بالحرمان والمنع، وتسمعها وقد اقترنت بالتفريق المُجحِف في المعاملة؟!
لا بدَّ أن تَنتبه البنت إلى أشياء لم تكن تخطر ببالها فتفكر وتقارن وتُوازِن، وقد تَخرُج مِن هذا بعقدة أو عقد نفسية لا علاج لها، ثم تحملها معها لتؤذي بها زوجها أو لتُسبِّب بها الشقاء لبناتها، أو تحذو حذو من سبَقها من النساء فتَمقُت هذه البنت نفسَها، وتَمقُت أنوثَتها لأنها تسبَّبت في حرمانها من مَلذَّاتٍ كثيرة يتمتَّع بها أخوها، وقد يؤدِّي هذا المقتُ إلى انطِوائها أو فشلها في الحياة أو سلبيَّتِها وعدم فعاليتها، وقد تؤدي هذه العبارة إلى تمرُّدها والتِحاقها بإحدى الجمعيات التي تُدافع – كما يزعمونَ – عن حقوق المرأة.
♦ ♦ ♦ ♦
إن هذه العبارة لا تجوز شرعًا، ولا يصحُّ قولُها أبدًا؛ لأنها مخالفة لأبسط الحقوق الإنسانية الإسلامية: “العدل”، فالعدل واجب على الآباء والأمهات تجاه أولادهم بنصوص مُحكَمة واضحة، ولا يجوز أبدًا التفريقُ بين الجنسَين في المعاملة المعنوية والمادية: ((مَن كانت له أنثى لم يَئدْها ولم يُهِنها ولم يُؤثِر ولده عليها، أدخله الله تعالى الجنة))([2])، ولحديث: “رُوي أن رجلاً كان عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاء ابنٌ له فقبَّلَه وأجلسه على فخِذِه، وجاءت ابنة له فأجلسها بين يديه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ألا سوَّيتَ بينهما؟))([3])، ولحديث: ((اتقوا الله واعدلوا في أولادكم))([4])، ولحديث: ((اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم))([5])، ولحديث: ((سوِّ بينهم)) وعلَّل ذلك بقوله: ((أيسرُّكَ أن يَستووا في برِّك؟)) قال: نعم، قال: ((فسوِّ بينهم))، ولحديث: ((ساووا بين أولادكم في العطية، فلو كنتُ مُفضِّلاً أحدًا على أحد لفضَّلتُ النساء))([6]).
♦ ♦ ♦ ♦
وقد يَعتقِد بعض الآباء أنهم بترديد هذه العبارة “أنت بنتٌ، وهو صبي” يعدُّون أولادهم من الجنسين للمُستقبَل، فيعدُّون البنتَ لدورها والصبي لدوره، وهذا خطأ؛ لأن الإعداد لا يكون بالإحباط، والتحضير للأمر لا يكون بالتنفير منه، فالعبارة تلك (مع ما يتبعها من تفرقة وظلم) تُسبِّب اليأس والاستِسلام وتورث الكره والبغض لكل ما يتعلق بالأنوثة.
وإنما يكون الإعداد بالاهتِمام بالبنت وتعويضها بالبديل المناسِب لها (هذا لو افترضنا جدلاً أنه تجوز التفرقة بينها وبين أخيها) فيقال لها: “لأنك بنت سوف نخصُّكِ بمَزايا لم نقدمها لأخيك ولن نقدمها له لأنه صبي! فلأنك بنتٌ سوف نُؤثِرك بملابس أجمل وأغلى من ملابسه، ولأنك بنت سنَشتري لك حليًّا فاخرةً، ولأنك بنتٌ سوف تَخرُجين مع أمِّك للعب مع بنات في مثل سنك في الحدائق والمُنتزهات، وسوف تصحبين والدتك إلى الزيارات والحفلات المُمتعة، ولأنك بنت سوف نهتمُّ بتعليمك كل ما تحتاجينه من علوم ومهارات لتكوني زوجة ناجحة وأمًّا رائعة، فعليك يتوقَّف المستقبل وبك يتحدَّد صلاح الجيل من فساده”، وبذلك نَصرِف البنت عن الشعور بالنقص إلى الشعور بالزهو، ونعدُّها لدورها دون أن نُقلِّل من قيمتها، ونعرفها أنها لا تتماثَل مع أخيها ولكنها تُكمله وتُساويه في الإنسانية، ونؤكد لها أن المجتمع والبشرية كلها لا يمكنها الاستغناء عن الخدمات التي تُقدِّمها النساء بحالٍ من الأحوال.
♦ ♦ ♦ ♦
أيها الناس، إن الفروق بين الصغار من الجنسَين ليسَت مُتفاوتة إلى تلك الدرجة التي يتصوَّرُها الآباء والأمهات ثم يُلقِّنونها لأبنائهم وبناتهم، والأحكامُ الشرعية الخاصة بالصغار من الجنسين واحدة إلا فروقًا بسيطة جدًّا؛ فالاثنان لا عورة لهما، والاثنان لا يُحاسَبان قبل البلوغ، والاثنان لا تُقبَل شهادتهما، والاثنان يَحتاجان لوصي، ولولي أمر، وغيره.
♦ ♦ ♦ ♦
فهذه العبارة “أنتِ بنت، وهو صبي” خطيرة لأنكم تُلقِّنون النشء مفاهيم مغلوطة، وقناعات مرفوضة، وعادات وتقاليد فاسدة حاربها الإسلام منذ قرون وأبدلَنا بها خيرًا منها، فلماذا تريدون إحياء هذه الجاهلية؟
(وهي العبارة الرابعة في كتابي “عبارات خطيرة”)