من مشكلات هذا العصر انصراف الناس عن المطالعة والقراءة الجادة، واكتفاء أغلبهم بقراءة الجرائد وسماع الأخبار، متذرعين بأنهم لا يحبون القراءة، وليس عندهم وقت للمطالعة ومتابعة الإصدارات الغزيرة للناشرين. وكلما حُث الناس على القراءة، ونُصحوا بضرورة الاطلاع والمتابعة، فهم بعضهم أنها مجرد دعوة لحشو رؤوسهم بالحقائق والمعلومات فينفرون من هذه المهمة الشاقة، ويُعرضون عن القائل، ولا يدرون كم يُفوتون على أنفسهم من المهارات بإهمالهم لعملية القراءة.
إن للتعلم سحراً، وخير طريقة يتعلم بها الإنسان ما يجهله هي قراءة الكتب، وخير ما يُقرأ “كتاب الله”، ثم ما يتعلق باختصاص المرء، وعلى الإنسان الواعي أن يقرأ بعد ذلك في كل علم، وأن يطرق الأبواب كلها ليحصل على الفائدة المرجوة من وراء القراءة، والقراءة المتنوعة ليست للرفاهية ولا للمفاخرة وإنما هي حاجة ضرورية؛ فلكل لون من ألوان المعرفة فوائد جمة ومن أهمل جانباً منها فقد حلاوته وعوائده. وإليكم بعض ثمرات القراءة الجادة الهادفة وشيئاً من فوائد الاطلاع على أبواب العلوم والمعارف:
– إن القراءة في الزهد والرقائق تقوي الإيمان وتزكي الأخلاق وترقق القلب وتشحذ الطباع، وتصفي الخاطر، وتدفع الإنسان نحو الأفضل في خلقه وسلوكه العام مع الناس، أي دينياً ودنيوياً. فهي من أكبر الوعاظ، ومن أجل الزاجرين، ومن أكبر الناهين، ومن أحكم الآمرين.
– والقراءة في الأدب (وحفظ بعض الأشعار) تبسط اللسان وتصقل البيان وتجود العربية وتثري اللفظ، وتعطي الملكة وتحلي المرء بالبلاغة والفصاحة.
وإنها تربي الحس الفني والتذوق الأدبي للنصوص في لغتنا الجميلة، وتميز الغث من السمين، واللفاظ الفارغة عن الأخرى القوية المعبرة، وتعلم الإنسان كيف يتكلم وكيف يستعمل اللغة للوصول إلى أهدافه من إقناع أو أمر بمعروف أو تبادل الخبرات.
– والقراءة في التاريخ تنمي مفهوم “التعليل” وربط الأسباب بالمسببات. وتساعد على تكوين عقل مستنير قادر على تفسير الأحداث ونقدها نقدا موضوعياً. وتنمي إحساس المرء بمشكلات أمته وعصره وبمسؤوليته تجاه هذه المشكلات.
التاريخ سجل لتطور البشرية، وعلى صفحاته نرى خطوات التقدم والانتكاس ومواقف النبل والنذالة، وذلك سيقود إلى حياة أفضل أنه سيؤكد أن البشرية في تقدم مطرد بالرغم مما في الحياة من عثرات، إنه معالم تعيننا على طريق الحياة الطويل وتطرد اليأس.
وتبعث في النفس روح التفاؤل وتعيد إليها الأمل؛ فحين يقرأ المرء عن المحن التي أصابت الشعوب المسلمة خلال تاريخهم الطويل ويرى كيف تجاوزوها وساد الإسلام من جديد ترتفع المعنويات، ويصبح الإنسان أقدر على تحمل مصائب الدنيا لأنه يرى أن الأيام دول فلا يغتر بحاضره ولا يغتم به، وإنما يتأمل بالفرج القريب، والنصر الأكيد.
– والسياسة والاجتماع عِلمان لازمان لأنهما يحددان واجبات الأفراد وحقوقهم، ويرسمان الإطار الذي يحيط بالفرد ككائن اجتماعي، فنحن نعيش مع الناس ولا بد من أن نفهمهم لكي نتمكن من التعايش السليم معهم.
– والقراءة عن الأعلام وفي سير المشاهير تيسر الاستفادة من تجارب الآخرين، وتحفز الإنسان ليكون كهؤلاء مسلماً منتجاً فعالاً، وتبين له سبل النجاح، وتكون عوناً له على تجاوز الصعاب في مجالات الحياة المتنوعة. وتعوده على الصبر والتحمل ريثما يظفر بحاجته ويصل إلى مبتغاه.
– والقراءة في علم النفس تهبنا المقدرة على فهم أنفسنا فتساعدنا على إزاحة الاكتئاب والحزن عن حياتنا. وعلم النفس يعيننا على فهم الناس بطريقة أفضل ويساعدنا على التقرب منهم وكسب ودهم ومحبتهم، ثم التأثير فيهم بالقول اللين، لعلنا نصبح نحن وإياهم عوناً لبعضنا البعض في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
– والقراءة في الجغرافية تجعل الإنسان يتفكر في ملكوت الله ويستشعر عظمته لما يتعرف عليه من خلق الله العظيم وإبداعه في إيجاد المجرات والكواكب ورفعه الجبال الشاهقة وتفجيره الأنهار العظيمة، وما يؤثر ذلك على المناخ والحياة… والجغرافية تعرفنا على سكان العالم وبيئاتهم ومواردهم وأحوالهم فنفهم الدنيا أكثر وندرك أن الاختلاف سنة في الخلق فنحمد الله على ما نحن فيه من النعماء، ونحاول التخطيط لغد أفضل ونحسن استغلال الثروات.
– والقراءة في علم الرياضيات تنمي العقل وتساعد المرء على سرعة الحساب، وتجعله دقيقاً في إيجاد النتائج، وفي تقدير الأحجام والأبعاد الفراغية، وإنها لضرورية جداً للحياة اليومية، والعصر يقوم عليها في البيع والشراء وفي سائر الأمور، وكثير من السائقين يستطيعون تقدير المسافات بدقة أكثر من غيرهم بسبب تلك العلوم التي تعلموها وأتقنوها ثم اختزنت في عقلهم الباطن؛ وأضرب مثلاً بسيارة قريبي التي تعرضت لحادث سير أدى إلى حشرها في مكان ضيق، وفشلت محاولات (سائق الونش الأمُيّ) المتكررة لاستخراجها، فما كان من قريبي إلا أن أمر السائق بالنزول وركب مكانه وفي دقائق معدوة استطاع سحب السيارة، ولما سألناه: “كيف نجح وهو في حياته لم يسق ونشاً وعجزت خبرة المختص؟!”، قال: “الفضل للرياضيات والهندسة الفراغية، وبما تعلمته منهما استطعت إخراج سيارتي بنجاح”.
وقد حاولت مرة إحدى الخادمات أن تُدخل طاولة دائرية من أحد الأبواب وكان قطر الطاولة أكبر من فتحة الباب فما دخلت معها بحال، فأبقت الطاولة على استقامتها وأخذت تديرها يمنة ويسرة وتحاول وتحاول حتى كسرت أطرافها، ولو أن هذه المرأة كانت تعرف أبسط المعلومات لأدركت أنه من المستحيل أن تدخل بالطاولة الدائرية من فتحة تصغرها مهما أدارتها، والحل في أن تميلها قليلاً فيصغر قطرها فتمر بسهولة ويسر.
وأنا أعلم أن غالب هذه الخبرات يدرك مع مرور الأيام بالتجربة، إلا أن العلم والمعرفة المسبقة يوفران علينا الوقت والجهد، ويوفران الخسارة المادية فلا نفسد أشياءنا بجهلنا كما فعلت تلك الخادمة.
– وعلم الأحياء يؤدي لإدراك معنى الموت والحياة، ويؤكد تفوق الإنسان وتميزه على سائر الكائنات، وأنه قادر على السيطرة عليها وتسخيرها لمنفعته.
– والكيمياء والفيزياء تعملان على تفسير الظواهر اليومية الطبيعية، وتعلم خصائص المواد وكيفية التعامل معها. ثم تسخيرها لما فيه فائدة الإنسان وراحته.
وعلم الفيزياء أساس لابد منه لجميع العلوم التطبيقية والتقنية، وعلم الكيمياء مصدر معظم المصنوعات التي نستعملها، ويحفز على التفكير والتجربة والابتكار والتطوير والتحوير واستخراج طرق جديدة لجعل تلك المصنوعات أكثر نفعاً، أو ابتداع طرق بسيطة للاستغناء عنها والاكتفاء الذاتي بغيرها حين تفتقد.
والعلمان يعلمان المرء دقة الملاحظة، وينميان قدراته العقلية من خلال الفهم والاستنتاج والتعليل والتفسير والربط والتحليل والتركيب.
– وأهم علم هو العلم بالشرع ولذلك قال تعالى: {وَمَن يُؤتَ الحكمَةَ فَقَد أُوتيَ خَيراً كَثيراً} وقيل الحكمة: “العلم والمعرفة بدين الله والفقه فيه والاتباع له. وكتاب الله حكمة وسنة نبيه حكمة”، وقيل للعلم “حكمة” لأنه يمتنع به، وبه يعلم الامتناع من السفه وهو كل فعل قبيح، وفي البخاري: “من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين”.
فاهتموا بالقراءة، واقرؤوا كل يوم ما لايقل عن عشر صفحات، واقرؤوا في كل مجال، فإن فعلتم ارتقيتم وكنتم من المفلحين الناجحين في سائر أمور الحياة.
روعة ياريت تعملي لنا أستاذة نادي كتاب عالفيس بحيث يكون هناك اقتراح للاسم كتاب ومناقشة بسيطة لما جاءفيه