أبناؤنا يتعلمون الصدق حين نصدق معهم، وصدقنا معهم يدفعهم إلى الثقة بنا والاطمئنان إلينا. لا تظنوا أن الصغار لا يميزون، بل هم يدركون إن كنا معهم صادقين أو كاذبين. ولا تحاولوا حملهم على أي عمل بإخفاء ما له من جانب سلبي، بل اعترفوا بهذا الجانب وغالبوه بالتشجيع.
حدثتني والدتي أنها اشتكت -وهي صغيرة- ألماً دائماً في بطنها، فلما فحصها الطبيب وجد أنها تحتاج أن تُصوَّر صورة شعاعية لتقصي سبب المغص والألم. وكانت الصورة لا تتم إلا بعد أن يتناول المريض شَرْبَةً من الملح الإنكليزي ذي الطعم البشع والرائحة الكريهة. فلما رأت أمي شكله وشمّت رائحته استبشعته ورفضت تناوله. حاولت جدتي إقناعها بأن طعمه ليس كرائحته، ورغّبتها في تذوقه، فلما تذوقت بعضاً منه ازدادت عزماً وتصميماً على ألاّ تشربه مهما حصل، فغضبت جدتي وسَعَتْ إلى إجبارها على تناوله وهي رافضة متمنّعة، فلما أعياها الترهيب لجأت إلى الترغيب فراحت تحاول إقناعها مؤكدة أن هذا الدواء لذيذ الطعم، وهي لا تزداد إلاّ عناداً وتصميماً.
سمع جدي الضجيج فجاء من غرفته مستطلعاً الأمر، فلما وقع على تفصيله طلب من جدتي أن تترك الأمر له، ثم التفت إلى والدتي فقال لها: “يا بنيتي، سأكون صادقاً معك؛ لذلك لن أقول لك إن هذا الدواء ذو طعم لذيذ، إنه كريه ولا يمكن شربه، بل إن طعمه لا يُطاق، وقد احتجتُ يوماً لتناوله فلم أفعل لشدة كراهته وآثرت احتمال الألم على تجرع طعمه الكريه، ولكني آمل أن تكوني أشجع مني وأقوى وأمضى عزيمة فتفعلي مالم أقدر أنا عليه، ويتم لك الشفاء بإذن الله”. قالت أمي: عندما صدقني والدي شربتُه جرعةً واحدة وأنا سادّةٌ أنفي مغمِضةٌ عينيّ؛ لشعوري بأنه مقدِّر لمعاناتي غير مستخفٍّ بآلامي.
* * *
إن الأطفال أذكى مما نتصور؛ فهم سرعان ما يكتشفوننا إن كذبنا عليهم، فيلجؤون إلى الأسلوب ذاته في تعاملهم معنا، فيكذبون هم علينا. والكذب من أبشع الطباع، ولكنه من أسهلها اكتساباً ومن أصعبها علاجاً، وكثيراً ما يلجأ إليه الأطفال للحصول على كسب أو الهروب من عقاب. ونحن -رغم صدق أهلنا معنا وصدقنا معهم- حاولنا اللجوء إلى الكذب (في بعض المرات) خوفاً من العقاب، فما تساهل جدي -أبداً- في هذا الأمر، إلا أنه عالجه بالحكمة البالغة. فإذا شك أن أيّاً من أحفاده كذب استدعاه فوعده، إن صدقه القول، ألاّ يعاقبه، فيفهم منه حقيقة المسألة ثم يكتفي بتوجيهه وتعليمه حتى لا يقع في الخطأ مرة ثانية. بهذا الأسلوب الجيد علمنا قول الصدق، فما زلنا نصدقه ونصدق أمهاتنا -آمنين من العقوبة طامعين في العفو جزاءَ الصدق- حتى صار الصدق طبعاً من طباعنا، ثم صرنا -من بعد- نصدق ولو أيقنّا بالعقاب.
* * *
لقد نشأنا -نحن الأحفاد- على الصدق والاستقامة والصراحة في علاقتنا بجدنا وأمهاتنا: فعندما بلغنا السابعة وأُمِرنا بالصلاة لم يقل لنا جدي إن الصلاة عمل سهل ممتع، وعندما بدأنا بتغطية رؤوسنا، ولما نبلغ العاشرة، أخبرنا -صراحةً- أن الحجاب قيد صعب. لقد كان يعترف بالجانب السلبي للأشياء دائماً ويعمد بعد ذلك إلى التشجيع والتحفيز بأساليبه المبتكرة والعجيبة. أليس الحجاب قيداً صعباً للفتاة، وخاصة في مستهل شبابها وأول تفتحها؟ أدرك جدي ذلك فلم يسعَ إلى إيهام أيٍّ من بناته أو حفيداته بخلافه، بل بالغ في وصف صعوبة المسألة (في الظاهر) واتخذ كل أسباب التشجيع والترغيب (في الخفاء)؛ فعندما أرادت كبرى بناته أن تضع الحجاب أرسلها مع جدتي إلى السوق فاشترت لها، بناء على طلبه، أغلى وأجمل خمار، حتى لأظن جدي دفع ربع راتبه الشهري -وكان وقتئذ قاضياً- ثمناً له، فكانت النتيجة أن خالتي شعرت بالفخر والزهو لما ذهبت إلى المدرسة والخمارُ الثمين النفيس فوق رأسها فتسابقت الفتيات إلى تقليدها وصار حجابها كسباً لها بدل أن يكون عبئاً عليها.
كان هذا هو منهج جدي دائماً في التعامل مع التكاليف والواجبات، الدينية منها والدنيوية، يدفع إليها ويرغّب فيها ما استطاع، ولكنه لا يستعين على ذلك بإغفال صعوبتها أو بأن يزعم لها من المتعة والسهولة ما ليس فيها. انظروا إليه يحدث -في بعض كتبه- عن الطاعات والواجبات: “كل المعالي ثقيلات على النفس: ترك التلميذ الرائي والإقبال على الدرس ثقيل، وترك العالم مجلس التسلية والاشتغال بالقراءة والإقراء ثقيل، وترك النائم فراشه والنهوض إلى صلاة الفجر ثقيل، وهجر الرجل زوجه وولده ومشيه إلى الجهاد ثقيل -ولا تنكروا وصف الدين بأنه ثقيل فالله سماه بذلك في القرآن:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً}- لذلك تجد الطالحين أكثر من الصالحين، والغافلين السادرين في الغي أكثر من الذاكرين السالكين سبيل الرشاد”.
وكبرتُ فتزوجت وصرت أماً ولم أنسَ هذا الدرس؛ فكنت أبحث -مع أبنائي- عن الجانب السلبي في أي أمر فأعترف به بصدق غيرَ موارِبة ولا متهرِّبة، ثم أعمد إلى الجانب الآخر الإيجابي فأغلّبه عليه وأستعين على الإقناع به بالترغيب والتشجيع. وأيُّ أمرٍ -مهما كان صعباً وسلبياً- يخلو من الإيجابية والخير؟
* * *