هذا حديث عن جدي -الشيخ علي الطنطاوي- الذي عرفه الناس قبل أن أعرفه، واستفادوا من علمه الواسع في محافل العلم ومواطن الخطابة وعبر الإذاعة والرائي قبل أن أوجد في هذه الدنيا، ونُشرت مقالاته وطُبعت كتبه قبل أن أتعلم القراءة والكتابة. ثم جاء يومٌ شعرت فيه بالحاجة إلى أن أحدّث عنه الناس، لا كما عرفوه هم، ولكن كما عرفته أنا: جداً لحفيدة عاشت في داره، وكبرت تحت إشرافه؛ ومربياً لأهل بيته؛ وموجهاً لمن حوله.
لقد اهتم جدي بموضوع التربية، وركز عليه، ونبّه الناس إليه في خطبه وكتبه وأحاديثه، وكان أكثر ما دعا إليه وحثّ عليه ورغّب فيه: العناية بتربية الأبناء تربية إسلامية صحيحة وذلك بإنشاء دعامتين عظيمتين أساسيتين:
بناء الإيمان العميق، وزرع الإحساس الدائم بمراقبة الله.
ضرب جدي مثلاً لذلك فقال: عملية التربية تشبه عملية البناء، والبناء -مهما كان نوعه- لا يقوم إلا بأساس، فمن أراد أن يبني بناء بطابقين حفر الأرض ووضع أساساً من الحديد و الإسمنت يكفي لطابقين، ومن أراد بناء عمارة من عشرة طوابق، وضع حديداً وإسمنتاً يتحمل عشرة طوابق، بينما لو أردنا بناء ناطحة سحاب لاحتجنا إلى أساس أقوى وأمتن. وهذا هو الأصل في الدين، وهو ما نريده اليوم للنجاح في الدنيا والنجاة والفوز في الآخرة؛ نريد جيلاً عميق الإيمان، قوي البنيان، يفهم الإسلام فهماً صحيحاً مستقيماً لا لبس فيه ولا اعوجاج.
لذلك علينا -مربين- غرس الإيمان عميقاً في النفوس، وزرع التقوى وخوف الله في القلوب، والتأكيد على الاستقامة ومراقبة الله في السر والعلن. وهذه المرحلة تبدأ منذ الطفولة الأولى، ويتوجب فيها على المربي أن يستغل كل موقف وكل حدث لغرس هذه المبادئ، وتحتاج إلى تركيز وتأكيد دائمين؛ حتى ينجح المربي في بناء الأساس القوي المتمثل في: الإيمان الكامل الصحيح (كما هو مفصل في أركان الإيمان)، والقيام بأعمال الدين الأساسية، من صلاة وصيام وزكاة وتحليل للحلال وتحريم للحرام. ولا ينجح المربي في ذلك إلا أن يكون -هو نفسه- على بينة وفهم صحيح مستقيم للدين بحلاله وحرامه.
ثم أَتَمّ جدي مثاله فقال: تأتي بعد ذلك أعمال مهمة مكملة، لكنها ليست من الأساسيات، مثل بناء الحوائط، ووضع الشبابيك، والتركيبات الداخلية. وهي -في التربية- تشمل السنن المؤكدة (التي ينبغي أن نشجع أبناءنا عليها، ونحثهم على القيام بها، بتعريفهم فضلها، وعظم ثوابها، لكن لا نجبرهم عليها). وأخيراً تأتي التشطيبات النهائية: حيث يُتِمّ كل فرد بناء بيته حسب ذوقه. فمن الناس من يكسوه بالرخام، ومنهم من يطليه بالدهان، ومنهم من يلصق ورق الجدران، فذلك عائد لذوق صاحب البناء ولمقدرته المادية وللهدف الذي من أجله أُقيم البناء.
وبهذا المثال الواضح أشار جدي إلى أمرين، أولهما: اختلاف الناس، فمنهم من يريد دخول الجنة فقط، ومنهم من يريد الدرجات العالية. وثانيهما: أن الناس يتفاوتون في القدرات والطاقات، والميول والأهواء، فلا يمكن أن يميلوا كلهم إلى العبادات كالإكثار من التنفل في الصلاة والصيام، ولا يمكن أن يكونوا كلهم أغنياء كرماء يتصدقون بالليل والنهار… لذلك كانت الجنة بعدّة أبواب؛ ليدخل كل مسلم من الباب الذي يناسبه بالعمل الذي يقدر عليه.
* * *
فيا أيها المربون: لا تجبروا أبناءكم على شيء من النوافل؛ فيصبح العمل إرضاءً لكم وخوفاً منكم لا خالصاً لله. ولا تهتموا بالمظاهر والظواهر، بل اعملوا فقط على تقوية الإيمان، وذلك بربط حوادث الحياة اليومية بمراقبة الله والخوف منه. قاوموا الغش والكذب والخيانة، وقوّموا المفاهيم الخاطئة: فلا توجد -مثلاً- كذبة بيضاء، ولا تجوز الخيانة والغش حتى للكافر… ثم اتركوا كل مسلم يقدم بعد ذلك ما يستطيع من الأعمال الصالحة. وستكون المفاجأة أن ذلك المسلم سيسعى بنفسه إلى الكمال، وسيحاول القيام بكل عمل يقربه إلى الله.
لا تعجبوا من هذا الكلام ولا تظنوه مستحيلاً أو صعب التنفيذ؛ فالذي يقرأ في كتب الحديث يرى -جلياً- كيف سعى النبي e إلى غرس الإيمان في نفوس أصحابه فولّد ذلك لديهم الرغبة في الكمال، واندفعوا يسألون عن الحلال والحرام، وعن الخير والشر، وأي الأعمال أفضل. حتى أنهم نُهُوا عن ذلك (كما ورد في الحديث الذي رواه الإمام مسلم) : “إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يُحرّم على المسلمين فحُرِّم عليهم من أجل مسألته”.
وأكثر ما يعجبني في جدي أنه كان قدوة في ذلك، فكان أولَ من طبق ما يدعو إليه -رغم وفرة مشاغله وكثرة تغيبه عن المنزل- فهو لم يهمل بيته ولم يترك بناته، بل عمل على توجيههن، وأحسن تربيتهن، ونمّى عندهن مراقبة الله الدائمة، وخوّفهنّ من عقابه، ورغّبهنّ في ثوابه، فصرن يتسابقن لما يرضي الله، ويسألنه هن عن الأعمال التي تقربهن من الله بدل أن يدفعهن هو إليها. وبذلك أثبت جدي أن عمل الدعاة في توجيه عامة المسلمين وتوعيتهم لايتناقض أبداً مع تربية الأبناء، بل إن واجب الداعية الأصلي هو تربية أبنائه قبل تربية أبناء المسلمين.
فكيف استطاع جدي ذلك ؟ وماهي الطريقة التي اتبعها لغرس الإيمان في نفوس بناته؟
* * *
بدأ -منذ أيام طفولتهن الأولى- بتنبيههن إلى وجود الله وقدرته العظيمة، مراعياً إدراك البنت وقدرتها على الفهم في كل مرحلة، مستغلاًّ المواقف المناسبة؛ فإذا طلبت إحدى بناته منه شيئاً قال لها: اطلبيه من الله. فتسأل: كيف أطلب ذلك الشيء من الله؟ فيقول لها: قولي: “يارب، أريد كذا”، وهو سوف يسمعك وسيعطيك، لأنه معك أينما كنت. وبعد أيام يأتي جدي وفي يده ما طلبته ابنته قائلا: انظري، لأنك قلت “يا رب”، رزقني الله مالاً وقدّرني على شراء ما تريدين. وكان -بين الحين والآخر- يشتري لبناته شيئاً لطيفاً مفرحاً: لعبة، أوحلوى، أو ملابس جديدة، ثم ينتظر حتى تغفو البنت فيضع ما أحضره إلى جانبها على طرف السرير. فإذا سألت في الصباح: من أحضر هذا؟ فإنه يقول لها:أحضره لك الله، فاحمديه واشكريه يعطِك المزيد.
وكان -إذا أقدمت البنت على ذنب صغير- يبين لها أنه عمل سيء ما كان ينبغي أن تعمله لأن الله حرمه ورسوله نهى عنه، ثم يطلب منها أن تتوب وتستغفر وأن لا تعود إلى هذا العمل أبداً حتى لا يغضب الله منها و يحرمها من ثوابه ومن إجابة دعائها، أو يتسبب غضبه عليها في عقابٍ يصيبها.
هكذا كان يفعل دائماً، ودون كلل أو ملل، حتى اعتادت بناته ذلك، وصارت إحداهن تدعو أحياناً بالمستحيل لشدة ثقتها بقدرة الله وقربه منها.
* * *
هذا بعض ما حدثتني به والدتي وخالاتي، أما الذي رأيته ولمسته بنفسي فكثير. فمن ذلك:
اهتمام جدي الشديد بالحلال والحرام؛ فقد كان يراقبنا ونحن نتوضأ، فينبهنا إلى وجوب غسل العقب غسلاً جيداً امتثالاً لتحذير النبي e: ويل للأعقاب من النار.
وعندما بدأت أصلي وأنا صغيرة (ولما تُفرض عليّ الصلاة) كان يراني أصلي صلاة سريعة دون اطمئنان فيأخذني إلى غرفته ثم ينصحني قائلاً: “يا ابنتي، أنت توضأت وسترت عورتك ووقفت بين يدي الله إرضاء له، فلماذا لا تصلّين كما أُمرت؟ إن النبي e نهى عن نقر الديكة، فصلي باطمئنان ولا تضيعي تعبك وتركك اللعب هدراً، بل تقربي إلى الله بصلاة خاشعة يوفقك في كل عمل تقومين به بعد ذلك. كما أن الصلاة -مهما طالت- لا تأخذ من وقتك أكثر من خمس دقائق، فما هو العمل الثمين الذي تهملين الصلاة من أجله؟ وما هو الشيء الأهم من رضى الله؟”. فكان هذا التذكير الرفيق يدفعني إلى تجويد صلاتي والتمهل بها والخشوع فيها من بعد.
وكان يمنعنا منعاً عنيفاً من نتف الحواجب أو الأخذ منها ويصور ذلك العمل من الذنوب العظام. وكان ينهانا أشد النهي عن لبس ما يصف أو يشفّ، ولنا بعد ذلك أن نلبس ما نشاء.
أما السنن والنوافل فكان يحثنا عليها دائماً، ويبين لنا فضلها وعظم ثوابها. بل إنه كان يتفنن في ترغيبنا بأدائها وتشجيعنا على الإقبال عليها فيقدم -في بعض الأحيان- الجوائز التشجيعية لمن يؤديها منّا.
لم يجبرنا جدي على أداء السنن يوماً ولا أكرهنا على شيء من النوافل قط، ولكنه دأب على ترغيبنا بأدائها وربطنا بها ودفعنا إلى الإقبال عليها لنكون من الذين يحبهم الله ويحبهم النبي e، ولأننا أحببنا أن يحبنا الله ورسوله فقد أقبلنا على السنن والنوافل وحرص أكثرنا عليها وتمسّك بها.
* * *
هذا هو الأساس الذي اعتمد عليه جدي في تربية وتوجيه ثلاثة أجيال؛ فقد ربى إخوته وأخواته، ثم ربى بناته، ثم ساهم -بشكل فعال- في تربية أحفاده وحفيداته. بل هو قد عمل على توجيه أجيال من تلاميذه وساعد كثيراً من الآباء بالنصائح التربوية المفيدة على مرّ السنين.
فلعلكم تجدون في هذه الخبرة الطويلة والتجربة الفريدة النفعَ والفائدة. فإن وجدتم ذلك فتذكروا جدي بالدعاء: أن يوفقَه الله لكل ما يرضيه، و يشرحَ صدره، وأن يعفوَ بكرمه عن سيئاته، وينجيَه يوم الحساب.