التواضع وتقبل النقد لا يقلل من منزلة المربي -كما يظن البعض- بل يزيده في أعين الناس رفعة واحتراماً. فشجعوا أولادكم على مصارحتكم بما يظنونه بكم بدل أن يتهامسوا بعيوبكم في الخفاء.
مرَّ جدي بظروف مختلفة: فقد حظي عند ولادته وفي نشأته الأولى بعناية خاصة ورعاية كبيرة؛ لأنه بكر أبويه. فكان مدلّلاً مرفَّهاً، يُخدَم ولا يَخدم، ويُجاب إلى طلباته ورغباته، وإذا أخطأ عُفي عن خطئه فلا يكاد يُعاتَب أو يُعاقَب!
لكن الحال تغير فجأةً بوفاة والده.. ثم والدته.. فصار هو كبير البيت وعائلَهُ ولمّا يتمَّ عامه العشرين، فتحمل مسؤولية إخوته كاملةً وقام على تربيتهم والعناية بهم والإنفاق عليهم. كل ذلك وهو ما زال شاباً صغيراً لمّا يكملْ دراسته، فإذا به يرى من الحال غير ما كان ألِف ويعاني من صعوبات الحياة ما لم يكن يعرف. ولكن الله منّ عليه بالعزيمة ووهبه مزايا كثيرة وأعطاه علماً واسعاً، فما لبث حاله أن انقلب إلى خير (والمؤمن كل أمره له خير) وصار من أعلام الخطابة والكتابة ومن أعظم علماء هذا الزمان وفقهائه.
لقد كان ينبغي لمن نشأ مثل تلك النشأة ثم انتهى إلى مكانةٍ كهذه أن يتملّكه العُجْب ويظن في نفسه الكمال (كما يفعل كثير من المتعالمين وأنصاف وأرباع العلماء)، لكن الظروف التي مرّ جدي بها والمكانة التي وصل إليها لم تمنعه من أن يتواضع لنا -نحن الصغار- في بعض الجلسات العائلية وفي ساعات الصفاء فيطلب منا أن نعينه على نفسه فننقده ونهدي إليه عيوبه. كان ذلك يشعرنا بالحرج … إذ كيف لنا أن نفعل، وجدي كبير العائلة سناً وقدراً، ونحن نحبه جداً ونحترمه ونقدّره غاية الاحترام والتقدير؟ وهو لم يكن بغير عيوب. ومَنْ مِن الناس يملك أن يكون بلا عيوب؟ وكنّا ندرك بعضاً من ذلك ونهمّ ببيانه ثم نحجم أدباً ورهباً ونخجل ونسكت. لكن جدي كان يصرّ على سماع انتقاداتنا وينتظر جوابنا، حتى إذا طال سكوتنا يشجعنا ويسعى إلى إقناعنا بقوله: “لا يوجد كمال في الدنيا، ولكل إمرئ عيوبه وأخطاؤه، لذلك قالوا: “كفى المرءَ نبلاً أن تُعدّ معايبه”. والإنسان -مهما كان منصفاً- لا يستطيع أن يعرف نفسه تماماً، فلا بد من مساعدته ليعرف نقائصه حتى يحاول التخلص منها، وخيرٌ للمرء أن يُبَصَّر بعيبه في الدنيا مرةً أو مرّاتٍ فيسعى إلى تداركه وإصلاحه من أن يحمله عمره كله ثم يحاسَب عليه في الآخرة”. فكنا نتحمس ويشجع بعضنا بعضاً، ونذكر -على استحياء، وبأدب- بعض ما نعرفه، فيشكرنا ويعدنا بأنه سيبذل جهده لتقويم العيب وتصحيح الأمور. وإذا اتفقنا كلنا على انتقادٍ ما يقول: “اشهدوا جميعاً، سوف أحاول من اليوم أن أتغلب على هذا الأمر وأصلحه، وأرجوكم أن تنبهوني كلما نسيت وعدت إليه”.
ثم يسري جوٌ من المرح في هذه الجلسات ويتطور النقد من التعبير بالكلمات إلى التعبير بالحركات، إذ أن عندنا في العائلة حفيدين (أحدهما من الجيل القديم الذي شهد معي كل ما أكتبه والآخر من الجيل الجديد) يملكان القدرة على محاكاة وتقليد هيئة جدي وتصرفاته، فكان يشجع كلاً منهما على ذلك، فيترك مكانه الذي يجلس فيه دائماً ليقوم حفيده بتمثيل ما يراه فيه تمثيلاً حياً بدلاً من التعبير الشفهي، وكان يأخذ الأمر بروح رياضية ونفسية مرحة، بل ويضحك من بعض المواقف الطريفة التي يقوم بها الحفيد.
لقد قالوا قديماً: “من شبّ على شيء شاب عليه”، وأنا أدركت جدي وعمره ستون عاماً، فهل استطاع التغلب تماماً على كل عيوبه؟ بالطبع لا، لكن اهتمامه ببيان هذه العيوب وحرصه على إصلاحها وتقبله للنقد وسعيه نحو الأفضل، كل أولئك كان يجعله في نظري أكبر وأكبر ويزيدني به إعجاباً وله احتراماً وتقديراً.
* * *