الإسراف في الهدية

وُلِد لي قبل سنوات مولودٌ جديد، فتداعى عدد من النساء، وجئْنَنِي مهنِّئَات مبارِكات، حاملات معهن الهدايا؛ زيادةً في التعبير عن المحبة والمودة؛ فالهدية فيها لفتة لطيفة، ولمسة ظريفة، وهي تؤلِّف القلوب، وتُوَثِّق عُرى الإخوة، والهدية – كما روى البخاري – سنَّةٌ مؤكَّدة محبَّبة: ((تَهَادَوْا تحابُّوا))، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ الهدية ويُثيب عليها، وكان يدعو إلى قَبولها، ويُرَغِّب فيها، فروى أحمد: ((من جاءه من أخيه معروف – من غير إشراف ولا مسألة – فليقْبَلْهُ، ولا يرُدَّه، فإنما هو رزق ساقه الله إليه)).

 

إنما الهدية التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم، والتي حض على قبولها هي الشيء البسيط اليسير، كما روى أحمد والترمذي: ((لو أُهْدِيَ إلَيَّ كُرَاعٌ لقبِلْتُ”، وفي رواية للبخاري: ((ولو أُهْدِيَ إليَّ ذِرَاعٌ أو كُرَاع لقبِلْتُ))، وعن أبي هريرة: ((تَهَادَوْا؛ فإن الهدية تُذْهِبُ وَحَرَ الصدرِ – الحقد – ولا تَحْقِرَنَّ جارةٌ لِجَارَتِها، ولو شِقَّ فِرْسِنِ – حافر- شاةٍ))، وكان يقول كما روى الترمذي: ((ثلاثٌ لاَ تُرَدُّ: الوسائد، والدُّهْنُ – الطِّيبُ – واللَّبَن))، وروي أيضًا: ((من عُرِضَ عليه رَيْحَانٌ فلا يَرُدَّهُ؛ لأنه خفيف الْمَحْمَل طَيِّبُ الريح))، فكانت الهدايا التي يقدمها، والتي يتقبلها مما يتوفر دائمًا كالطِّيب والدُّهْن والثوب، وما شابهها، وهي – كما نلاحظ – أشياءُ ضرورية ومفيدة.

 

أما أنا فجاءتني يوم تلك المناسبة هدايا غالية وغير متوقَّعة، وقد فوجئت، لَمَّا ذهبْتُ أفتح العُلَب المغلَّفَة، بمحتوياتها الثمينة والفاخرة؛ إذ كانت في إحدى العُلَبِ ثلاث ليرات ذهبية، وكانت الليرات الذهبية في تلك الأيام تزيد قيمتها عن ألف ومئتي ريال، وأعجب منه أن تكون هذه الهدية من امرأة لم أرها في حياتي، فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي تزورني فيها، وكانت الأخيرة، فلم أرها من يومها أبدًا!

 

وكان في علبة أخرى ملابس صغيرة لنوم المولود، وليست للزينة، وقد كُتِب عليها ثَمَنُها، وكان ثلاثمائة وخمسين ريالاً، ثلاثمائة ريال وهي مجرد منامة (أي بيجاما)! وسبب غلائها أنها ماركة فرنسية شهيرة، والغريب أن من أهدتني إياها لم تكتف بها، بل أضافت إليها قطعة أخرى وللنوم – أيضًا – وكان ما كُتِب عليها هو مائتا ريال، وكانت كلتا القطعتين لا تصلح إلا لطفل دون الشهرين من العمر! ولم تكن هذه السيدة (صاحبة الهدية) من معارفي، وإنما كانت صديقة (غير حميمة) لصديقتي!

 

وكانت في علبة ثالثة تُحفة ثمينة من الكريستال الفاخر الأصلي، وكانت رائعة بحيث إنها لا تتناسب مع طبيعة بيتي البسيط والمتواضع، فلم أدْرِ أين أضعها حتى أوفِّيَها حقها!

 

وكان في علبة رابعة طقم سفرة صيني من الأنواع الشهيرة النفيسة، التي يتسابق الناس إلى اقتنائها، والتي يتباهون بتقديم الطعام فيها.

 

كانت هذه بعض الأمثلة، وغيرها كثير، ففي كل علبة كنت أجد مفاجأة أغرب من التي قبلها، فهل تُصَدِّقون أنه قد وصلتني في ذاك اليوم من أربعين سيدة هدايا قيمتها عشرة آلاف ريال؟!

 

ولكنَّ المثير للاستغراب أكثر أنه لم يكن بينها شيء أحتاجه حقيقةً، فقد كانت كل تلك الهدايا مما لا يتناسب مع متطلبات البيت، أو ميولي، أو ذوقي، أو حتى مقاسي، وكان أغلبها من الكماليات التي لا ضرورة لها البتة، والتي لا يميل إليها أمثالي، ولا يستعملونها، ولا يتعاملون معها!

 

ولمَّا كانت السُّنَّة أن أثيب على الهدايا بخير منها؛ لِمَا رواه البخاري: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، ويُثيبُ عليها”، وفي رواية: “ويثيب ما هو خير منها”، وكما جاء في تعريف الهدية: “هي ما يلزم الموهوبَ له أن يُعَوِّضَه”، وكما روى الترمذي: ((من أُعْطِيَ عطاءً فوَجَدَ (أي: سَعةً من المال) فلْيَجْزِ بِهِ))، اضطررت بعدها إلى إنفاق آلاف الريالات حتى أَتَّبِع السُّنَّة وأثيب هؤلاء النسوة جزاءَ ما قدَّمْنَه لي، وحيث إننا لم نكن في سعة دائمًا – كما هو شأن كثير من الناس – فقد كابدنا جهدًا في بعض الأوقات للوفاء بهذا الواجب.

 

ثم تكررت بعدها عندي المناسبات وعندهن، وتوالت الهدايا عليَّ كما في المرة الأولى، وعَمَدْت إلى ردِّها من جديد، ولعلي أثناء ذلك قد أخطأتُ مع أولئك النسوة، ففعلت مثلهن، وقدمت لهن هدايا لا يحتجْنَها ولا تتناسب مع أذواقهن!

 

فانظروا كم أنفقَتْ هؤلاء النسوة على ما قدَّمْنَه لي، ثم ما أنفقْتُه أنا لأجْزِيَهُن أجْرَ ما تكلَّفْنَه من أجلي؟ لقد أنفقنا في مرة واحدة – وعلى الأقل- ما يقارب عشرين ألف ريال في أشياءَ كمالِيَّةٍ، لا فائدة حقيقية من ورائها، فكنا وكأننا ألقينا أموالنا هدرًا في مشروع فاشل، فخسرناها كلها وأضعناها، وقد كان هذا كله من أجل مناسبة بسيطة تتكرر في كل أسرة عدة مرات، فكيف بهن لو كانت المناسبة عظيمة وهامة؟!

 

وقد دفعْتُ وإياهن هذه المبالغ، ونحن من الطبقة الوسطى من الناس، فكيف ستكون الحال لو كنا من كبار الأثرياء؟! ماذا كانت ستُقَدِّم لي النساء وقتها؟ سيارة من الوكالة؟! غرفة نوم؟! وماذا كنت سأُثيبهن أنا على هداياهن؟ وإلى أي رقم كان سيصل المبلغ لو جاءتني المزيد من المهَنِّئات؟!

 

فتوصلت – من يومها – إلى أن الإسراف – وهو مجاوزة الحد – يكون في كل شيء، حتى في الهدية، وتنبهْتُ إلى أهمية هذا الموضوع، وضرورة الحد منه، بالقول وبالفعل، ورأيت أن أنبِّهَ في هذه المقالة إلى ضرورة الاقتصاد في الهدية، أو على الأقل التوسُّط فيها، ولو كان الطرفان من أرباب الأموال، ومن وجهاء القوم، فالهدية ليست للتعالي والتفاخر، وهي ليست مزادًا علنيًّا فيرفع كل فرد قيمتها في كل مرة زيادةً عن القيمة التي حددها من سبقه في الإهداء.

 

والهدية ليست بقيمتها المادية؛ فالأشياء المعنوية لا تُقَوَّمُ بالمادة، وإنما هي رمز للمحبة والمودة، وهي دلالة على عِظَم روابط الأخوة والصداقة، وهذه المعاني تقوم بها هدية بسيطة.

 

وحبذا لو اهتم الْمُهْدي بذوق الْمُهْدَى إليه، فيحاول استنباط ما يمكن أن يُقدِّمه إليه من استقراء سريع لاهتماماته، ومِن تَخَيُّل عاجل لبيته وهندامه، وغيره مما يعبِّر عن شخصية الإنسان وميوله.

 

كما أن الهدية يكون هدفها أحيانًا مساعدةَ أهل البيت في نفقاتهم الكثيرة، والذَّوْد عنهم بِحمل بعض الأعباء، ولذلك يجب أن تكون شيئًا مفيدًا ضروريًّا؛ أي: كالذي تعارَفَ عليه الناس في بلادنا عند الزواج، فهذا يُقَدِّم للعروسين الفُرن، وذاك الثلاجةَ، وآخرُ المكنسةَ الكهربائية، وهكذا حتى يكفونهما مَؤُونة التجهيز، فتكتمل لوازم البيت الأساسية من الهدايا وحدها، ولكنهم – وللأسف- جعلوا ذلك مقصورًا على هدية الزفاف، فطوبى لمن سَنَّ هذه السُّنة الْحَسَنة، فجعلها في كل هدية.

 

إن الأموال أعظم من أن تُهْدَر على الكماليات، والناس في فقر وفاقة، يشكون القلة وضيق ذات اليد، ولكنَّ غالب الناس لا يراعون هذه الناحية أبدًا، ولا يفكرون بهذه الطريقة الهادفة البنَّاءة؛ فهم يرون الهدية حِملاً ثقيلاً وواجبًا عظيمًا، يَوَدُّون التخلُّص منه سريعًا، فيشتري أحدهم أي شيء سعره مناسب ومعقول – وإن كان عديم الفائدة – ويقدمه هدية، وهذا فيه سَرَف أيضًا؛ لأن الإسراف لا يشمل القيمة المالية المرتفعة فقط، وإنما يَدخُل تحته إنفاقُ المال – ولو كان قليلاً – على شيء لا يُحْتَاج إليه أبدًا. فمثلاً: لَمَّا وَلَدَت إحدى قريباتي وصَلَتْها إحدى عشرة عُلبة، في كل واحدة منها جهازٌ للمولود، وكانت محتوياتها جميعًا متشابِهَة، وهي مما انقرض، ولم تَعُد تستعمله الأمهات أبدًا، فلم تستفِدْ قريبتي منها، ولم تستطع إهداءها من جديد؛ لأنها مما لا يُنْتَفَعُ به، ولو أن صاحبات تلك الهدايا فكَّرْن قليلاً، لوجدن أنه كان يُمكِنُهن شراءُ هدية أكثر جدوى بالقيمة ذاتها.

 

ولذا فإنني أنصح كل سيدة أن تتفكر جيدًا قبل شراء أية هدية لمعارفها، فتضع أولاً ميزانية معقولة تتناسب مع دخلها، ومع درجة القرابة التي تجمعها بمن ستُهديها، ثم تتفكر بشخصية تلك المرأة، وبوضعها وحاجاتها، ثم تشتري لها ما يناسبها، فإن عَدِمَت الحيلة وتملَّكَتْها الْحَيرة، فلتَتَّبِعِ السُّنَّة ولْتُقَدِّم ما خف ثمنه، وطاب ريحه من الطيب الرخيص، وليس من العطور الغالية؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم، يُحِبُّه، ولم يرفضه قط.

شاهد أيضاً

ملابس وأحذية وحلي وزينة…

والإسراف في الكسوة في هذه المقالة نصيحة صغيرة بسيطة، إلا أني ترددت كثيراً في كتابتها …