القوة لا تعني القسوة، ولو كانت كذلك لكان النبي صلى الله عليه وسلم أضعف الناس. ليكن اعتمادكم في تربية أبنائكم على المحبة والمودة والرحمة، وتذكروا أنكم تكبرون فتضعفون ويكبرون فيقوون، فإن زرعتم فيهم المحبة صغاراً كنتم أول من يجني ثمارها الحلوة حين تكبرون ويكبرون.
كثيرٌ من الآباء ينجح في أن يكون مهاباً، قاسياً، مسيطراً على أهل بيته، يسيرهم وفق مشيئته ويضعهم تحت إمرته، يقودهم بالقوة ويوجههم بالعصا؛ لكن قليلاً منهم من ينجح في أن يضبطهم بالمحبة ويسوقهم بالمودة ويخضعهم باللطف واللين، وجدي من هؤلاء القليل. فرغم شخصيته القوية، وقدرته النافذة، وسلطته المطلقة -بصفته كبير العائلة والمنفق عليها- لم يقسُ علينا بل ربّانا بالحب والعاطفة، وشملنا بسعة الصدر؛ فكان يتابع حال كلٍّ منا ويهتم بأمورنا: يسأل عنا فرداً فرداً، ويحل مشكلاتنا المادية والمعنوية على كثرة عددنا واختلاف طباعنا. وهو قد جمع إلى هذا اللطف كله الحزمَ في موضع الحزم، فكان يمازحنا حيناً ثم يعرّفنا أنه قد حان وقت الجد، يحدثنا حديثاً ثم ينبهنا أنه قد حان وقت العمل، يعطينا الكثير ثم يطلب منا أن نقدم -بدورنا- جهدنا ليساعد بعضنا بعضاً ما وسعنا.
بهذا الأسلوب السهل البسيط استطاع جدي امتلاكنا فكان رأيه مطاعاً وطلبه مجاباً؛ نتسابق لإرضائه والقيام على خدمته. وكنا نحبه ونهابه، نمازحه ونخافه، نناقشه ثم نتبع أمره. فإن أخطأنا معه تارةً أو تقاعسنا عن ندائه مرةً رمانا بنظرة واحدة صارمة كافية لتردنا عن خطئنا. وربما أخطأ الواحد منا الخطأ الكبير فيحدجه بنظرته المخيفة تلك ثم يُسمِعه كلمات واضحات قاسيات معبرات بهدوء وحزم بالغ دون صياح أو انفعال؛ فالصياح يفقد المربي هيبته، والانفعال يقلل من احترامه ويدني منزلته. وكانت الأمور تقف غالباً عند هذا الحد، فلا تصل إلى الضرب إلا في أحوال قليلة لا تذكر. ولقد سُبِقتُ بأربعة أحفاد ووُلِد بعدي سبعة عشر حفيداً، ولا أذكر أن جدي ضربني أو ضرب أحداً من أحفاده أمامي. ولئن كان قد اضطر في مرات نادرة إلى ضرب بعض الأحفاد -كما سمعت- فقد فعل ذلك لأن آخر الدواء الكي، فكان الضرب هو البند الأخير في قائمة العقوبات.
فإذا لجأ إلى الضرب (ومثل هذه الحالات -كما قلت آنفاً- من النوادر) فإنه لا يضرب كيفما اتفق، بل إن للضرب عنده أصولاً وقواعد؛ فنظرية جدي التي علمها بناته أن الضرب للتأديب لا للانتقام، فلم يعاقب أبداً أحداً لأنه كسر شيئاً دون قصد، ولو كان ثميناً، بينما عوقب يوماً أحد الأحفاد حين كسر زهرية رخيصة عبث بها فوقعت أرضاً، وكانت علة العقاب تمرّده على القانون؛ فالزهرية للزينة ولا يجوز اللعب بأغراض الزينة.
* * *
قد يكون المربي اليوم هو الأقوى وهو الأقدر لكنه غداً الأضعف والأحوج إلى الرعاية والعناية والبر والحب، وما لم يفكر بهذا ويضعه في حسبانه فإنه الخاسر الأكبر؛ فالقهر يوغر الصدر، والظلم يورث الحقد، والكبت يؤدي إلى التمرد، والضغط يولّد الانفجار.
المرء مطالَب أن يعطي قبل أن يأخذ، وعلى المربي -إن أراد أن يُسمَع ويُطاع- أن يقدم أولاً المحبة والاهتمام. تلك قاعدة ذهبية في التربية طبقها جدي في حياته وعلاقته ببناته وأسباطه. ولقد بلغ جدي اليوم التسعين وتغيرت فيه وفي مَنْ حوله أشياء كثيرة إلا الحب والود اللذين زرعهما فينا وربانا عليهما، واللذين ما يزالان يحملاننا على زيارته وبرّه والسعي إلى إرضائه في كل حال وفي كل حين.
* * *
يعني انت وجدك وعيلتكم كلها فخر حقيقي ومثال يحتذى به أحبك في الله يا غالية