تابعوا أولادكم أولاً بأول، وراقبوا سلوكهم خفية عنهم، فإن في ذلك عوناً كبيراً لكم على معرفة ما ينطوون عليه، ومن ثم توجيهم بطريقة صحيحة.
كانت دار جدي القديمة في دمشق داراً فسيحة مريحة ذات حديقة كبيرة جميلة تزينها بعض الأشجار المثمرة وتتوسطها بركة صغيرة تلطف حر الصيف وتزيد من جمال وفتنة المكان. تلك الحديقة كانت مركز اجتماعنا -نحن الأحفاد- نمضي فيها معظم يومنا باللهو واللعب؛ نتفق غالباً ونختلف في بعض الأحيان، وكنا كثيراً ما نحلّ مشكلاتنا بأنفسنا (كما يصنع معظم الصغار) ولكن الخلاف كان يتطور في بعض الأوقات إلى شجار واشتباك بالأيدي فيعلو صراخنا ونستنجد بالكبار لينصفوا المظلوم من الظالم، ويعيدوا الحق إلى نصابه، ولكن: أين الحق؟ ومن الظالم؟ ومن المظلوم؟ هذا ما كان يحيّر الكبار دائماً، فكلٌّ منا يروي أحداث المشكلة حسبما رآها هو، أو يركز على ناحية معينة، فيرى الحق مع فلان لأنه أخوه، أو لأنه ضعيف. ومنا من يخفي بعض الحقائق خوفاً من العقاب، أو لجعل الحق في صالح أحد الأطراف. ومنا من يكون مشغولاً غائباً عن المشكلة ومع ذلك لا يخلو أن يتبرع بالشرح والبيان والتعليق والاتهام. كل ذلك كان يحول دون معرفة المعتدي وتمييز الظالم من المظلوم مما يجعل العقاب جماعياً في كثير من الأحيان فنُحرَم من اللعب في الحديقة لساعات أو نتعرض للضرب أو للتوبيخ الشديد مما يؤدي إلى ازدياد المشكلات بيننا وإلى كثرة المخاصمات والمعاتبات.
* * *
اقترح جدي علاجاً لهذا الموضوع بحكم خبرته، فقد عمل قاضياً لفترة طويلة من الزمن، وكان هذا الاقتراح فرصةً ترتاح فيها أمهاتنا من الشكاوى التي لا تنتهي والمشكلات التي لا تتوقف. فبدأ بالاستفسار من أمهاتنا (مع أنه كان يعرف الكثير عنا) عن سلوكنا في الأحوال العادية وعن طباعنا وأسلوب كلٍّ منا في حلّ مشكلاته ومنهجه في التعامل مع إخوته ورفاقه، وبذلك كوّن فكرة واضحة عن كل واحد منا. ثم صار يلقي نظرة علينا بين حين وآخر -ونحن نلعب- من نافذة غرفته التي تطل على الحديقة ليتأكد من حسن سلوكنا، فإذا لاحظ شيئاً مريباً على أحدٍ منا نبّهه آخر النهار دون أن يلاحظ الآخرون. وعندما تبدأ المشاجرات ويعلو الصراخ يقف جدي بهدوء خلف النافذة مراقباً بدقة ما يحدث بيننا، منتبهاً لما يقول كل واحد أو يفعل، ونحن -لفرط انشغالنا واندماجنا في المشاجرة- لا نراه ولا نشعر بوجوده، فنظهر أمامه على حقيقتنا ويعلم المفسد من المصلح ويميز الظالم من المظلوم، ثم يخرج إلينا دون أن يشير إلى مارآه فيسأل ويحقق (وهو عالم بحقيقة ما جرى) ويوقع العقاب على الذي يستحقه فقط.
* * *
لقد كان ذلك من جدي أسلوباً جديداً فريداً متميزاً، فمراقبة الأطفال بشكل دائم والتعرف على سلوكهم (حتى في لحظات الصفاء) من أهم الأساليب التي تساعد على التربية والتوجيه وإصلاح الأخطاء قبل أن تستفحل ويصعب علاجها، وهي تمنح الأولاد ثقة بأن أهلهم على اطلاع دائم على ما يجري بينهم فتقل المشاجرات وتنتهي المشاحنات.
* * *