حين طرحتُ موضوع مقالتي الماضية “الاحتكار الجديد” للبحث والمناقَشة، وأعلنَت أن سلاسل المتاجر الكبيرة تضرُّ بصِغار التجار وتُعرِّضهم إلى البطالة، واقترحتُ إصدار القوانين للحدِّ منها، اعترض عليَّ بعض المُقرَّبين، وقالوا: التجارة شطارة، والإسلام لم يُحرِّم الكسب المشروع، والتجارة بهذه الطريقة الرأسمالية لا تُخالف الدين، فكيف أُحرِّمها عليهم؟!
وأشهد بأن كلامهم صحيح؛ فالتجارة شطارة، والإسلام لم يُحرِّم الكسب المشروع، على أن هؤلاء فاتهم أن الإسلام وضَع ضوابط لكل شيء، ووضع قواعد عامة للحياة، فإن اختلَّت واضطربَت جاز (وربما وجَب) للحاكم الصالح أن يُصدِر من القوانين ما يراه مُناسبًا، فسمح لولي الأمر أن يلجأ إلى التسعير (وهو في الأصل ممنوع) إن تجبَّر التجار وأغلوا الأسعار، وكلنا نعلَم كيف تصرَّف الخلفاء الراشدون حين ولّوا الخلافة، وكيف سلكوا مسلكًا جديدًا في الحكم، مسلكًا وافَقَ الإسلام وناسَبَ المُجتمعات التي حكَموها (كتعطيل سهْم المؤلفة قلوبهم، وكإيقاف الحد عام الرمادة…).
ولقد أجاز الشارع تغيير الأحكام بتغيُّر الأزمان، ووضَع بابًا سماه باب سد الذرائع، وفي الفقه باب معروف اسمه “المصالح المُرسَلة”، فالشريعة في بعض أحكامها طيِّعة مَرِنة لتُناسِب كل الحالات وليَشيع العدل في كل زمان ومكان، وكلما عرض للمسلمين أمر جديد في حياتهم يَدرُسونه من كافة أطرافه – ولا يَكتفون بظاهره وببعض جوانبه – ثم يُصدِرون الحكم المناسب له على ضوء الشريعة الإسلامية، ولو وضعْنا (الاحتكار هذا) قيد البحث – وتجاهَلنا ظاهره المباح والذي يُعتبر تجارة نزيهة – لوجدْنا أن هذه الطريقة في التجارة تضرُّ بتركيبة المجتمع وتُلحِق الأذى بالآخرين، ولو احتكمنا إلى شريعتنا، لوجدنا أن بعض الأحكام الشرعية تصبُّ في صالح الفكرة التي أطرحها، الأمر الذي يعني أن الدِّين لن يوافق على هذه الطريقة في التجارة هكذا بلا قيود أو شروط؛ لأنها احتكار، ولا يَحتكِر إلا خاطئ.
ولقد كان التاجر مِن قديم يقول لزبونه: “لقد بعتُ اليوم بما يكفيني من المال، فاذهب فاشترِ من جاري!!” وإنَّ الإيثار لمِن أهمِّ القيَم التي دعا إليها الإسلام، حتى إن الله أثنى على أهل المدينة في آياتٍ ما نزالُ نتلوها إلى اليوم لأنهم آثروا المهاجرين على أنفسهم، ونحن لا نريد (ولا نتوقَّع) من مسلمي اليوم الذين يعملون في التجارة أن يُؤثِروا على أنفسهم، فتلك صفة بعيدة عنهم وصعبة عليهم، وقد بَعُدت الشقَّة بيننا وبين خلُقِ الصحابة، والإنسان مفطور على حبِّه الشديد للمال، ولو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثًا، ولكننا ننتظر من التجار شيئًا من القناعة وشيئًا من العدل في إخوانهم العاطِلين الغارمين؛ إذ ليس يُعقَل أن يتمتَّع القِلَّة بثروة الملايين، ويَبيت الآخرون على الفقر والطوى، وليتَ كلامي يُلاقي صدًى في نفوس بعض كبار التجار فيعودوا إلى الحق مَشكورين، وعلى أمل أن يَستجيب لي عامة الناس حين يتسوَّقون أَسرُد مساوئ أخرى لهذا الاحتكار:
1- كثرت المحلات الكبيرة وتضاءلت الصغيرة، والنتيجة أن بدأت تتلاشى الدكاكين التي كانت تَخدُم الأحياء البعيدة، ونحن أول الخاسِرين؛ لأنها كانت توفر علينا عناء السير مسافات بعيدة لشراء الموادِّ الضرورية، وصِرنا مُضطرِّين إلى الوقوف طويلاً في الصف بانتظار أن يَزِن لنا عامل السوبر ماركت الخضار، أو ريثما يَصِل الدور إلينا على صناديق المحاسبة، في حين كان البقال يُنجِز لنا هاتين العمليتين في دقيقتين.
2- لا ينقص بعض الشباب اليوم الذكاء ولا القُدرة على النجاح، ولكن الجامعات وأماكن التوظيف تعجز عن استيعابهم فيُضطرُّون إلى الالتجاء للعمل الحر بعد أن لم يَجِدوا وسيلة سواه للستر وكسب العيش، وكثير منهم لدَيهم روح التجارة ويُحسِنون التخطيط، ورغم ذلك يفشلون! فما الذي يَحدث؟
يدرس الشاب احتياجات السوق، ويُخطِّط لمشروع جيِّد ومعقول، ويعمَل على تنفيذه بعزم ونشاط، ويقضي وقتًا طويلاً في إجراء المعاملات وفي ملاحقة العُمَّال؛ فيبحث عن الدكان المناسب وفي المكان الجيد، ويدفع إيجاره، ويُجهِّزه بديكور جميل، ويجلب له بضاعة جيدة حديثة، ويتَّخذ كل الأسباب، وأخيرًا يجلس في دكانه ينتظر جزاء عمله ويتأمَّل الربح الحلال، فيخذله الناس ويَنصرِفون عنه، فتكسُد بضاعته وتتقادَم، وتمر الأيام سراعًا، ويأتيه مالك الدكان مطالبًا ببقية الأجرة، ويأتيه التجار يُطالِبونه بثمن البضاعة، فيُسلِّم الدكان ويبيع البضاعة بأبخس الأثمان، ويواجه صاحبنا الكادح المسكين الخسارة والبوار، وتُلاحِقه الديون، ويقعُد عاطِلاً بلا ذنب وقع فيه، ولا خطأ اقترفَه.
أما لماذا انصرف الناس عنه وقد بذل جهده وأجاد التخطيط؟ فإنهم انصرَفوا عنه لسبب واحد فقط، هو هؤلاء الكبار الذين استأثروا بالزبائن، وإني أراقب الشارع الذي أسكن فيه من تسع سنوات (وهو شارع ممتلئ بالدكاكين) فأرى كم تعاقب على كل دكان من التجار؛ ومحل واحد تعاقَب عليه الحلاق، واللحَّام، والخيَّاط، ومركز الصيانة، وبائع الملابس، ثم مقهى الكمبيوتر… إيه والله، وكلهم خسر ماله وأفلس وركبتْه الديون، فانظروا كم فقدت الأمة من أموالها على هذه المشاريع، وكم ضاع من جهود الشباب، وكم تحطَّمت آمال وأحلام، أفلا يُؤلِمُكم هذا؟!
3- ومن أشد العواقب التي سنُواجِهها في المستقبل القريب: “تحكُّم الأقوياء بالسوق وبأسعار البيع والشراء”، ومن اليوم بدت بوادره وصِرْنا كلنا تحت رحمة هؤلاء الملاك الكبار، وإنهم يلعَبون بالأسعار كما يشاؤون، فهل يُرضيكم هذا؟
والمؤسف أن التجار (الذين ضعفوا بسبب هؤلاء الأغنياء) مُضطرُّون إلى التعامل معهم (أي مع مَن سلبوهم حقَّهم في التجارة وأكلوا أرباحهم) ليُسيلوا بضاعتهم إلى مال يأكلون منه ويعيشون، ويَحصُلون على ضرورات الحياة، فصاروا يَحومون حول أصحاب المتاجر الكبيرة فيتكبَّر هؤلاء عليهم ويرفضون الشراء منهم فتكسُد بضاعتهم، أو يَفرِضون شروطهم القاسية والجائرة؛ ليأخُذوا البضاعة بثمن بخس، وحتى البضاعة التي تُعجِبهم يأخذونها مؤجَّلة الدفع، ويَعرِضونها ويبيعونها ويربَحون منها ويتأخرون في سداد ثمنها، ويتأخرون وهم مليئون (أي يملكون المال وقادرون على الدفع الفوري)، وهذا غير محبذ عند الله ورسوله، ولكن أمثال هؤلاء لا يُبالون بالآخَرين ما داموا يأكُلون ويشرَبون ويتمتَّعون، لقد استغنوا بأموالهم عن كل شيء، ونحن السبب في استغنائهم ولولا تهافتنا عليهم ما اغتنوا.
♦ ♦ ♦ ♦
هذه القضية أيها السيدات والسادة، وانتهت المرافَعة! وأصبَح هذا الموضوع الهامُّ بين أيديكم، ولكم الخيار في أن تَستجيبوا لي ونتعاون معًا على إحقاق الحق، أو تُهمِلوا مقالي فأفوض أمري إلى الله، على أنكم ستَذكرون يومًا ما أقول لكم، فهل ستَنفع الذكرى يومها؟
ثققثثثثثث