بدأت العمل قبل دخولي الجامعة بشهور فتوظفت في إحدى الشركات التي لا تهتم بالشهادات العلمية بل تهتم بالمؤهلات الشخصية، ولما كانت الوظيفة تتناسب مع مؤهلاتي، وتتجانس مع مقدراتي، فقد تم قبولي فيها دون قيد أو شرط. وقد واجهتني صعوبات بسبب الجمع بين الدراسة والعمل، إلا أنني نجحت في دراستي والحمد لله. ورغم توسع الشركة التي أعمل بها، وتنوع نشاطاتها وزيادة ساعات دوامها (خلال سنوات دراستي) اجتهدت في عملي وأعطيته حقه، وكنت على قدر المسؤولية.
فلما تخرجت من الجامعة وجدت الشركة التي أعمل بها تحتاج وجودي ومتابعتي وجهدي وخبرتي، ولا يمكنها بعد اليوم الاستغناء -ولو جزئياً- عن خدماتي، ففضلت الاستمرار في وظيفتي القديمة تلك والتفرغ لها على تركها والالتحاق بعمل سواها، إذ ليس من اللائق أن أتكبر على العمل الذي قبلني قديماً دون شروط لمجرد أنني حملت شهادة جامعية لا تكاد تزيد عن كونها -في هذه الأيام- شهادة لمحو الأمية! خصوصاً أني وجدت في وظيفتي تلك مهنة تناسبني، وتلائم ظروفي، ورأيت أني أستطيع القيام بأعبائها، ويمكنني تحمل مسؤولياتها، وقد اكتسبت خبرة أكثر أثناء ممارستها، الأمر الذي جعلها أكثر إمتاعاً، وأعظم فائدة ومردوداً، ويسّر لي مزاولتها، وسهّل علي حل مشكلاتها؛ فكنت أعتبر مشكلات مهنتي المتنوعة الكثيرة التي تواجهني يومياً نوعاً من التحدي والإثارة أختبر فيها مقدرتي على الاحتمال والصبر، وأظهر فيها ما عندي من الإبداع والحكمة في مواجهة مصاعب المهنة. وكنت مقتنعة بجدوى مهنتي تلك، وسعيدة بالنتائج المشجعة التي أراها كل يوم، وكنت أتوقع لها مستقبلاً باهراً.
لكن وظيفتي تلك لم ترُقْ لصديقاتي؛ فقد رأينها لا تليق بخريجة جامعية، ولا تصلح لإنسانة مثقفة واعية، ولا تتناسب مع السهر والإرهاق اللذين تكبدتهما ريثما نلت درجة البكالوريوس. وكن يتناوبن على إقناعي بضرورة ترك هذه المهنة والبحث عن سواها. أو -على الأقل- إضافة مهنة أخرى إليها كالتدريس مثلاً، فأكون قد قدمت للمجتمع عملاً ملموساً بدل إضاعة طاقاتي وقدراتي في هذه المهنة التي لا تفيد شيئاً، وسأجني عندها فائدة أفضل وأجلّ وأعظم من الفائدة التي أقدمها وأنا منتسبة إلى هذه الشركة. وتوالت إثرها الاحتجاجات حولي، كلٌّ يقنعني بطريقته، ويدفعني بأسلوبه إلى إيجاد عمل بديل.
والحقيقة أن كلام الناس هذا حيرني، وأثار تساؤلاتي: أيُّنا على صواب؟ وأي المهنتين أفضل؟ وجعلت أفتش وأتحسس الرأي الأصوب لأتبعه وأعمل به؛ فهن يرين التدريس أو أي عمل آخر أفضل من مهنتي بلا تردد، وأنا أرى مهنتي هي الأكثر مردوداً والأعظم فائدة بلامنازع. وكانت هنا نقطة الخلاف بيننا.
* * *
وتساءلت كثيراً -بيني وبين نفسي- عن سبب محاولتهم صرفي عن مهنتي، وحثي على تركها، وقد شجعوني عليها قديماً، وزينوها لي، فرغبت فيها، وعندما جاءتني الفرصة المناسبة وبعد تفكير واستخارة قررت امتهانها، ثم وقعت عقدها برضا نفس، ودون إجبار، وقد هنأني الجميع يومها -رجالاً ونساء، كباراً وصغاراً- وباركوا لي وتمنوا لي التوفيق والنجاح، فما لي أراهم اليوم وقد انقلبوا على عملي الذي ساقوني إليه، فنقموا على مهنتي، وقللوا من شأنها؟! وكيف يطلبون مني اليوم ترك هذه الوظيفة، بعد أن تعهدت بالالتزام بها؟ وكيف يطلبون مني إهمالها، أو الإخلال بتأدية واجباتها عند إضافة وظيفة أخرى إليها؟ فوظيفتي الحالية تأخذ كل وقتي، دوامها أربع وعشرون ساعة في اليوم، ليس لها إجازة سنوية ولا أسبوعية، ولا حتى إجازة مرضية، ولا تعترف بالتفرغ الجزئي ولا الكلي ولا بالابتعاث.. لكن تقوى الله تلزمني ببنود العقد الذي وقعته -قديماً- لمّا انتسبت إلى الشركة، فالوفاء بالعقود من الأخلاق الإسلامية.. إنه عقد الزواج الذي وقعت عليه وتعهدت بتنفيذ بنوده مدى الحياة، ولا يمكنني بحال أن أوقع عقداً آخر إلا بعد أن أتأكد أنه لن يخل بشروط العقد الأول. وكيف ذلك ومهنتي الحالية لا تدع لي وقتاً، فهي واحدة في ثلاث: زوجة، وأم، وربة منزل! وطالما تعارضت هذه الوظائف الثلاث وصعب التوفيق بينها، فكيف أضيف إليها أعباء وظيفة رابعة؟! وكيف ألزم نفسي بشروط عقد آخر جديد؟
وكيف أفعل وأنا أعلم -مِن تجارب مَن حولي- أن غيابي عن البيت يعني غياب أجزاء كبيرة من الحنان والمراقبة والتوجيه والنظام والترتيب والنظافة والأخلاق والترابط العائلي… وربما أدى هذا الغياب الطويل المتكرر إلى انحراف الأولاد مع رفقاء السوء، أو ربما أدى إلى فقدان أبنائي التزامهم الديني الجيد، أو إلى تدني أخلاقهم عن المستوى اللائق. هذه المخاوف هي التي حبستني في البيت، ومنعتني من الخروج إلى العمل، وسهلت علي الاختيار، وحسمت القضية، فلا وظيفة ولا عمل إلا بعد الانتهاء من تربية الأولاد وتنشئتهم، والاطمئنان على دينهم وخلقهم ومستقبلهم... فكانت نتيجة المفاضلة بين المهنتين لصالح الأولاد، واخترت الجلوس في البيت.
* * *
اعترضت صديقاتي على قراري، ورأين أن الجمع بين المهنتين ممكن، واعتبرن دفاعي هذا قدحاً وتقليلاً من مقدرتي على تنظيم الوقت والتخطيط الجيد، فقلت لهن: لا شك أن تنظيم الوقت عامل مهم في القدرة على العمل داخل البيت وخارجه في آن واحد، وهناك نساء كثيرات نظمن وقتهن فاستطعن التوفيق بين المهنتين، لكن وفي حالة وجود طفل -أو أكثر- دون سن المدرسة يتعذر تنظيم الوقت وتكثر الاستثناءات والظروف الطارئة، فهم عندما يتخاصمون مع بعضهم، أو يمرضون الواحد تلو الآخر، أو يصابون بحادثة غير متوقعة، أو يفسدون شيئاً يستغرق إصلاحه وقتاً طويلاً… هم في كل هذا لا يخضعون لنظامنا، ولا يتقبلون تخطيطنا، بل هم يخلّون ببرامجنا، ويفسدون دقتها. كما أن متطلباتهم وأمزجتهم وطباعهم لا تخضع أيضاً لنظامنا؛ فهي كثيرة ومتنوعة وغير محددة بأوقات، ومن الظلم أن تكبت رغبات الأطفال، وأن يحرموا من العطف والرعاية والمتابعة.
هذا عدا الخدمات الطارئة غير المتوقعة التي تخل بالبرامج التي سبق وأفسدها الأطفال الصغار! وذلك عندما يتحول البيت إلى فندق يستقبل زواراً لعدة أيام، أو يتحول مطعماً لتقديم الوجبات الفاخرة إلى أعداد كبيرة من الناس… فلا بد والحالة هذه من إهمال إحدى الواجبات الضرورية، أو أكثر، وتقديم واجبات الضيوف عليها.
ونظراً لأن هذه الظروف لا تشترك فيها كل البيوت، ولما كانت ظروف النساء متفاوتة، وأحوالهن متباينة، ترك الأمر مفتوحاً، فالإسلام ما حث المرأة على العمل ولا نهاها عنه، إنما ألزمها بتأدية واجبات نحو الزوج والأولاد والبيت (إن كانت ذات زوج) فإن قامت بواجباتها على الوجه الأكمل ثم وجدت وقتاً كافياً لعمل إضافي كان لها ذلك. وإلا فعليها احترام بنود عقد الزواج، وعدم الاستخفاف بواجباتها نحو أسرتها، وعليها تقديم مسؤوليتها عن الأولاد على أي مسؤولية أخرى، فهي راعية في بيتها، ومستأمنة على أولادها، وسوف تحاسب يوم القيامة حساباً عسيراً إن فرطت أو قصرت في مسؤوليتها.
من أجل ذلك يختلف حكم عمل المرأة:
1- فتارة يكون حراماً: إذا فرطت بفرض أو واجب.
2- وتارة مباحاً: للمرأة التي دخل أولادها المدرسة، أو التي عندها القدرة على التوفيق بين البيت والعمل.
3- وتارة مستحباً: للمرأة التي ما تزوجت بعد، أو التي تشكو الوحدة والفراغ.
4- وأحياناً يكون واجباً وفرضاً تأثم إن قعدت عنه: للمرأة التي تنفرد بخبرة ليست عند سواها، أو للمرأة القادرة على الكسب ولا معيل لها…
فلماذا جعلتن -يا صديقاتي العزيزات- العمل فرضاً واجباً على كل جامعية، وما دليلكن؟ ولماذا تدينون المرأة التي اختارت مصلحة أولادها على سواها؟
* * *
فأرجو الانتباه لهذا الأمر، وأهيب بكل أم أن تقرأ نصيحة د. سبوك قبل أن تخرج إلى العمل: “ولو كانت الأم تدرك مدى أهمية هذا النوع من العناية بالنسبة للطفل الصغير لسهّل عليها ذلك أن تقرر أن المال الإضافي الذي تكسبه أو السعادة التي يحققها لها العمل في وظيفة خارجية ليسا -بعد كل حساب- أمراً ذا أهمية بالغة”[1].
وأرجو من كل أم تريد الخروج إلى العمل أن تفاضل جيداً بين جدوى المهنتين قبل أن تفعل، وأرجو منها أيضاً أن تدرس قدراتها وظروفها جيداً، ثم تسقط فقه الموازنات وفقه الأولويات على النتائج التي حصلت عليها قبل أن تترك بيتها وتخرج إلى العمل.
* * *
وأنا في هذا لا أدعو النساء إلى الجلوس في البيت، ولا أريد في المقابل أن يدعوني أحد إلى إهمال أسرتي والخروج إلى العمل، إنني أنادي بترك أمر العمل لظروف وقدرات كل امرأة. لكني أناشدكن أيتها الأمهات، وأسألكن بالله أن لا تهملن تربية وتوجيه أولادكن.
* * *