نقاطع ولا يقاطعون!

احتاجت صديقتي السورية إلى صالة فاخرة تجمع ضيفاتها فيها لتحتفل بعرس ابنها، وجاءها عرض مغر جداً من أحد الفنادق الأمريكية الفاخرة: تخفيض كبير على صالة الأفراح، وعلى أسعار الطعام والشراب، وتخفيض على الجناح الذي سيقدم لمدة ثلاثة أيام للعروسين. لكن صديقتي رفضت هذا العرض الرائع فقط لأن الفندق أمريكي، وتحملت مصاريف أكبر حين استأجرت صالة أغلى، ودفعت مبلغاً أعلى ثمناً للعشاء وللمنامة، ولكنها كانت سعيدة لأنها نفعت المسلمين وحجبت مالها عن أعداء الدين. وإننا جميعاً -وإن لم نوافقها أبداً على بذخها ولم يرضنا إسرافها- سررنا جداً بأنها لم تخرم المقاطعة وشددنا على يدها، وفخرنا بأن أفراحنا –نحن السوريين- لم تنسنا إخوتنا في فلسطين.

وفي اليوم التالي مباشرة دعتني جارتي الفلسطينية إلى عرس أخيها في أحد الفنادق الفاخرة، ولم أحصحص حين سمعت اسم الفندق وذهبت، وحان وقت العشاء ودخلنا صالة الطعام وإذا بعلب البيبسي تملأ الطاولات، فتساءلت كيف يحضرون شراباً أمريكاً ونحن مقاطعون؟ وانتبهت ساعتها إلى أن الفندق الذي دعينا إليه أمريكي! ولا أدري كيف لم أنتبه من قبل، ولعلي أخذت الأمر على الثقة والتوكل ولم أتوقع من جارتي الفلسطينية إلا المقاطعة، لا سيما وأنها تعمل في مجال الدعوة وتلقي المحاضرات.

وتلفت حولي فوجدت أكثر المدعوات من فلسطين: العروس من فلسطين وزوجات أقاربها وجاراتها وصديقاتها كلهم من هناك، فدهشت وتألمت. وقبيل الرحيل وقفت أودع جارتي وأبارك لها، فسألتني -باهتمام- كيف وجدت عرسهن؟ فقلت كله ظريف وسررنا في حفلكن. ولكن يا أختي، كيف تهاونتم في أمر المقاطعة، وفي مثل هذه الظروف العصيبة التي يمر بها إخواننا هناك؟ ولو غيرك فعلها واستأجر صالة أمريكية لما التمسنا له عذراً واحداً فكيف أنت تفعلين والقضية بكم ألصق وأهلكم هم الذين يسامون سوء العذاب هناك في فلسطين؟ فقالت والله لسنا نحن إنهم أهل الفتاة. قلت وما الفرق؟ أنتم وهم سواء عرسكم واحد وقضيتكم واحدة؟! فما كان ينبغي أن تسايروهم. قالت الفرحة أنستهم كل شيء، وقالوا هذا اليوم مرة في العمر كله فلا تحرمونا من التمتع به! وأصروا على رأيهم، وإنحاز الجميع إليهم ووافقوهم، فسكتت ورضيت خوفاً من إثارة المشكلات.

ورجعت إلى بيتي حزينة أفكر كم عانينا -نحن المسلمين- في سبيل الالتزام بالمقاطعة، وكم حرمنا على أنفسنا من الطيبات، وكيف غيرنا أشياء كثيرة في حياتنا قربة إلى الله وتعاطفاً مع إخواننا وشفقة وحزناً عليهم، ثم نرى بعض الفلسطينيين لا يهتمون لقضيتهم ولا يأبهون لأرحامهم، ويهملون التعاون معنا نحن أصدقاءهم، ويساعدون أعداءهم!

وهذا موضوعي اليوم أيها القراء والقارئات: “نحن المسلمين نتعاطف ونقاطع وبعض أهل فلسطين أصحاب القضية لا يقاطعون!”، فلا تنتظروا مني انتقاد البذخ الذي رأيته في العرسين فهذا موضوع آخر نقده الناس وكتبت أنا عنه على صفحات هذه المجلة، فلندعه إذن ولنتابع الكلام عن المقاطعة.

*   *   *

ويحب أولادي الطعام الذي تقدمه سلسلة من المطاعم المحلية الطيبة المذاق والرخيصة السعر، فقصدناه ذات يوم لنتعشى عنده فقدم إلينا الكوكاكولا مع الوجبة!؟ ووزع علينا أوراقاً يسألنا فيها عن الشكاوى ويطالبنا بالاقتراحات فكتبنا إليه نرجوه أن يكف عن تقديم الكوكاكولا، ولو أنه قدم البيبسي لاعترضنا عليه لأنها أمريكية فكيف إذن وهو يقدم بضاعة يهودية؟

وفي اليوم التالي اتصل بنا مالك المطعم والذي هو مديره أيضاً وأخذ يجادلنا ويناقشنا بأنه أبرم صفقة مع شركة كوكاكولا ولا يستطيع وقفها قبل انتهاء أجلها، وكانت المفاجأة أنه من فلسطين، وساءنا أنه لا يريد التضحية بأي شيء وليس مستعداً لأي خسارة، ورغم ذلك حاولنا معه وكررنا اعتراضنا وكلمنا فيه النخوة والشهامة والإسلام والعروبة فوعد خيراً، ومرت الأيام وعدنا إلى ذلك المطعم ووجدنا الحال على ما هو عليه. وسلطنا على صاحب المطعم كل من يرتاده من أقاربنا وأصدقائنا، وكلٌ كتب له واستعطفه ومنهم من هاجمه وأنبه، وها قد مرت سنوات على المقاطعة وما زال ذلك الرجل الفلسطيني يقدم الكوكاكولا ولا يهتم ولا يأبه لاعتراض السوري والسعودي والمصري على تعاونه مع أعدى أعداء بلده.

وتخيلوا أننا -نحن المسلمين- نتخلى عن أشياء كانت ضروررية في حياتنا ونعود أنفسنا على العيش من غيرها، ونضن بالريال الواحد أن نشتري به قلماً تنتفع من ورائه أمريكا بهللات! ثم نرى بعض الفلسطينيين أصحاب القضية يخرمون المقاطعة ويدفعون لأمريكا المئات والآلاف ليتمتعوا بالكماليات! ونراهم يسرفون ويبذخون وينفقون بسخاء من أجل أشياء لها بدائل أخرى غير أمريكية.

وتخيلوا: المصريون يتعاطفون مع القضية ويقاطعون فرع الماكدونالد في بلدهم ويضطرونه إلى إغلاق مطعمه نهائياً، ويقبلون بقطع أرزاق إخوانهم المصريين (الذين كانوا يعملون فيه) فداء للفسطينيين، وهم بغنى عن ذلك فلا أهلهم الذين يقتلون ولا مالهم الذي يصادر، وجارتي وصاحب المطعم أهلهم يقتلون ولا تضرهم المقاطعة ويمتنعون عنها! وإني أتساءل ما ضر جارتي الفلسطينية لو أنها استأجرت صالة على نفس المستوى (وإن كنت أتحفظ على البذخ) في فندق آخر غير أمريكي؟ وما ضر صاحب المطعم لو أنه اشترى شراباً غازياً من شركة آخرى غير البيبسي وقدمه في مطعمه؟ إنه لا يحتاج لأكثر من تبديل الشراب ليرضي زبائنه؛ فالطعام الذي يقدمه (ويربح منه الربح الأكبر) محلي، وعماله عرب، وديكوره وطني، ومطاعمه ليست لها أصول أجنبية ليدفع لهم نسباً، فما يمنعه -وقد فتح الله عليه وصار من أرباب الملايين- أن يتعاطف مع قضية بلده ويقاطع؟ أفلا يخشى أن يطوف على مطاعمه طائف من ربه فتصبح كالصريم؟

*   *   *

وقبل الختام أناشد الفلسطينيين الذين لا يقاطعون (وأخص منهم الأغنياء المغتربين) أن يتعاطفوا معنا -نحن المسلمين- ويقاطعوا اليهود وأمريكا لأنهم يعتدون على أهلهم وإخوانهم وقراباتهم وأملاكهم في فلسطين!!

شاهد أيضاً

المهر وسننه المتروكة

اليوم -ومع الغلاء ومع تهديد الأزمة المالية العالمية- ازداد اهتمام الناس بالمادة ازدياداً كبيراً، وتضاعف …