قابلت أمس أماً تشكو من تفريط ابنتها ذات الثمانية أعوام بالصلاة، تأمرها بأدائها فتتهرب منها وتتهاون بها حتى يدخل وقت الصلاة التالية ولا تصلي، ويمضي النهار بين إلحاح الأم وتهرب البنت، وتمر الأيام والحال على هذه الشاكلة وتزداد البنت عناداً والأم إصراراً.
وكنا في زيارة ضمت عدداً من الأمهات ففتحت شكوى هذه الأم الباب لبعض الحاضرات ليشتكين من المشكلة ذاتها، واستفضن في الشرح والتفصيل، واتضح لي من خلال الحوار براءة البنات وإدانة الأمهات! وسأقول لكن كيف يتسبب الأهل في نفور البنات والأبناء من الصلاة:
1- الحديث قال: “مروهم لسبع واضربوهم لعشر”، أي اصبروا عليهم ثلاث سنين، ويُفهم منه أن الأمر يتم بالتدرج وليس بين عشية وضحاها، وبعض الناس يظنون أنه متى بلغ الولد السابعة وجب عليه أن يصلي جميع الفروض! فهم يجبرونه عليها ويوقظونه من النوم ليؤدي صلاة الفجر، ولا يرضون منه إلا أن يتطهر ويأتي بسنن الوضوء وسنن الصلاة، فهل يعقل هذا؟ ويطلبون من البنت الصغيرة (التي لم تتحجب بعد) أن تستر جسمها كله لتصلي، وإلا فلن يقبل الله عبادتها وسيعذبها بالنار، فهل هذا من المنطق؟ وإن هذا والله لمنفر من الصلاة، وهو من أسباب إعراض صغارهن عنها.
2- والإسلام أمرنا بالحكمة والقول اللين، ومراعاة مقدار عقول الناس، ولكن الأمهات يتكلمن بلهجة قاسية حين يأمرن بالصلاة، وقد يأتين لابن السابعة وهو يشاهد برنامجه المفضل أو وهو مندمج في لعبة مفيدة، فيأمرنه بقطعها والذهاب فوراً إلى الصلاة، وهذا خطأ والنبي ص كان يقول إذا حضر العَشاء والعِشَاء فابدؤوا بالطعام، وكان في يوم البرد والمطر يصلي في البيت، الأمر الذي يدل على أن الدين يسر وأنه يراعي حاجات الناس وأوضاعهم، فلا ينبغي أن نرغم الصغار على ترك ما بأيديهم من متع الحياة والذهاب قسراً إلى الصلاة. وقد جعل الإسلام لكل فرض متسعاً من الوقت، والإسلام جعل الأذان للإعلام بدخول الوقت، فإذا أذن أعلمي ابنك بأنه قد اقترب وقت الصلاة ليستعد ولا يباغَت.
* * *
إن الإسلام رفع القلم عن الصغير حتى يحتلم ولا يؤاخذه الله قبل البلوغ، فلا تعجلي عليه بالعبادات، وإنما مهدي للأمر باكراً فحدثيه عن الجنة منذ الثالثة من عمره، وحببيه بالخالق، واسردي عليه بعض الأعمال التي ترضي الله وأرشديه إليها، وفهميه أن من رضي الله عنه أرضاه في الدنيا والآخرة ووفّقه في حياته وأعطاه ما يحب ويشتهي.
وحين يبلغ السابعة نأمره بالصلاة ولو من غير وضوء، أي نقول للولد تعالَ فصلِّ، فيصلي في اليوم الأول صلاة الظهر مثلاً، ثم نتركه وقد لا يصلي صلاة غيرها في يومه ذاك ولا في يومه التالي، فنذكره في اليوم الثالث برفق ولين بالصلاة فيصلي فرضين مثلاً. وهكذا نبقى خلال السنة الأولى: نناديه مرة ونتركه مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً، وإن حضرت الصلاة وكان منسجماً باللعب تغاضينا عنه ولم نأمره بها، وإذا مرض أعفيناه من الصلاة ولو استمر مرضه أياماً، وإن كان نعساناً لم نذكّره بصلاة العشاء وتركناه لينام. فإن جاءت السنة الثانية أي صار الولد أو البنت في الثامنة نذكره كل يوم بفرض واحد -إن نسي- وبالوضوء قبله، ونترك بقية فروض اليوم لهمته وذاكرته، وخلال السنتين التاليتين تصبح الأوامر أقرب، فنذكره بفرضين في اليوم الواحد، ثم بثلاث، وهكذا حتى تصل صلاته إلى أربعة فروض في اليوم وتنتظم تماماً، ومن الممكن بعدها أن نوقظه لصلاة الصبح أو نطلب منه أن يصليها قبل ذهابه إلى المدرسة صباحاً.
واطمئنوا تماماً إلى هذه الطريقة المتدرجة فهي مجرَّبة مرات ومرات ونجحت في كل مرة. وللقدوة أثر إيجابي كبير على الطفل في هذا العمر، والتزامنا بالصلاة سيعزز توجيهاتنا ويدعمها بقوة، والأمهات اللاتي اتبعن هذه الطريقة لم يحتجن إلى تذكير الأولاد بالصلاة عندما بلغوا الثامنة لأنهم التزموا بها وصاروا يحافظون عليها وحدهم.
ومن العوامل المشجّعة أن تصلي الأم بابنتها (أو بناتها) إماماً، فتناديها حين تهمّ بالصلاة وتحدثها عن ثواب الجماعة، وتقول إنها بحاجة إلى من تصلي معها ليتضاعف أجرهن جميعاً، وإن كان زوجك في البيت فأقيموا الصلاة وصلوا جميعاً، ولا بد أن يحفز هذا ابنتك لتشرككم في الصلاة. ومن الممكن أن تقص الأم على ابنتها قصة بعد الانتهاء من الصلاة أو تشرح لها معاني الآيات التي قرأتها، فتسر البنت بذلك وترغب بالصلاة لتحظى بما بعدها، أو تضع الأم بجانب سرير ابنتها هدية وتقول إن هذه مكافأة من الله أرسلها إليها لأنها صلّت وإنه قد يرسل لها غيرها إن استمرت في العبادة… والصبيان يعامَلون بالطريقة ذاتها، ويحبَّذ أن يصحبهم والدهم أو أخوهم الكبير إلى الجامع ثم يشتري لهم من البقالة شيئاً لطيفاً في أثناء العودة أو يأخذهم في نزهة قصيرة أو زيارة ممتعة، فترتبط الصلاة بأشياء جميلة في ذهن الصغير فيحرص عليها ويحبها. وهذه النصيحة وقائية، ولو اتبعتها الأمهات لاتّجه الأولاد إلى الصلاة بيسر وسهولة ولصارت عادة محبَّبة إليهم.
أما الأمهات اللاتي وصلنَ إلى طريق مسدود مع بناتهن وأبنائهن فإني أنصحن بما نصحت به الأم التي ابتدأت الشكوى، فنصحتها بأن تكف تماماً عن أمر ابنتها بالصلاة وأن تتركها شهراً كاملاً، وخلال ذلك تجدد صداقتها معها وتحدثها حديثاً عاماً ودياً عن الله ونعمه علينا ورحمته الواسعة بنا، وإذا تفوقت البنت نسبت الأم الفضل لله، وإذا تعبت أو مرضت قالت لها إنه تكفير عن ذنوبٍ فَعَلتها، فبماذا قصّرت يا ترى؟ ثم تروي لها القصص (والقصص كثيرة) عن كرامات الأولياء والصالحين وعن الآخرين الذين عاجلهم الله بالعقوبة لتقصيرهم في حقوقه. وبعدما يمر الشهر تبدأ الأم بالإشارة إلى أن الله لا يريد منا مقابل نعمه الكبيرة علينا إلا الشكر، والشكر يكون أولاً بالصلاة فلماذا لا نقوم بها وهي أمر بسيط لا يساوي شيئاً مقابل نعمه الكبيرة علينا؟
ولتكن الأم قدوة بأفعالها، فإذا حضرت الصلاة تترك كل شيء في يدها وتقول لابنتها: “سأقوم إلى الصلاة حتى يوفقني الله”، أو لتقم وهي صامتة وتصلي في الغرفة نفسها التي تجلس فيها الابنة، ولتخشع وترفع صوتها قليلاً بالقراءة لتسمعها البنت، وعلى الأم أن تختار وقتاً لا تكون فيه ابنتها مستمتعة بعمل ما أو منشغلة بهواية محببة إليها، أي لا توقعها في صراع بين الدين والدنيا؛ فالصلاة ثقيلة والنفس تميل إلى التفلّت والتحرر، فقدري هذا في ابنتك الصغيرة وتلطفي بها. وإذا طلبت البنت الخروج إلى النزهة أو لشراء شيء فقولي لها: “نعم، نخرج بعد الصلاة إن شاء الله”، وحين يؤذن قولي لها: “هيا نصلي لنستعجل الخروج”، فيشجعها ذلك وتصلي وهي راضية. وهذه الوصفات مجربة، وبإذن الله لن تبلغ ابنتك العاشرة إلا وهي ملتزمة بكل الصلوات.
ونحن نصلي إرضاء لربنا ونزولاً عند أوامره، إلا أنه لا ضير أن نحدّث أولادنا عن فوائد الصلاة الأخرى من أنها تزيل الاكتئاب وتنشط الجسم وتحرك بعض العضلات مهما دقت وصَغُرت، حتى قالوا إن السجود على أصابع القدم رياضة فريدة ومفيدة لها! ولعل هذا الشرح العلمي يلاقي صدى في نفوس الأبناء ونحن في زمن يتهافت فيه الناس على العناية بصحتهم.
* * *
بقي أن أخبركن بأن إحدى الحاضرات استغربت مني، وتساءلت كيف أنصح الأم بنصيحة تخالف أوامر النبي عليه السلام (حين نصحتها بأن تدع ابنتها شهراً بلا صلاة وقد بلغت الثامنة)؟! فبينت لها أن هذا من باب الفقه في تطبيق الشريعة وليس من باب إهمال أوامر النبي ص وتوجيهاته، إنها هو أشبه بما فعله عمر بن الخطاب حين عطل سهم المؤلفة قلوبهم وأوقف الحد عام الرمادة، إنه لم يخالف الشرع ولكنه وجد المصلحة في ذلك وقتها فعمل مدة بما اقتضته المصلحة ريثما يزول السبب.
وكان رأيها أن تستمر الأم في أمر ابنتها بالصلاة ولو وصل الأمر إلى إجبارها عليها، فأخبرتها أن التوقف عن الصلاة شهراً أهون من هجرها دهراً. وتجارب الناس هي التي علمتني ذلك، ومن التجارب الكثيرة التي رأيتها تجربة لسيدة مقربة مني عاندها ابنها ولم يصلّ، فأصرت عليه وسلطت عليه أباه ليراقبه وليضربه إن تقاعس، فصار الصغير يصلي خوفاً من أبيه فإن انشغل أبوه عنه ترك الصلاة، وشبّ على ذلك وبلغ سن التكليف وهو لا يصلي. فتعلمت من هذه الحادثة (وأمثالها) أن الإجبار لا يفيد وأن الطفل العنيد لا تجدي معه هذه الطريقة بل تزيده عناداً، ونكون نحن السبب في تركه الصلاة! فكان لزاماً أن نستعمل أساليب أخرى في التوجيه ليرجع الصغير عن عناده ويلتزم بالصلاة قبل أن يبلغ، وإلا أثِمْنا عند الله وضاع الولد من بين أيدينا.
إن الصغار أمانة لدينا وواجبنا نحن المربين أن نعزز مكانة الصلاة لديهم ونشعرهم بقيمتها وأهميتها في حياة الفرد المسلم، وأن نجعلهم يتذوقونها ويستمتعون بأدائها لتكون راحة لهم من كل هم وجلاء لكل كرب يحيق بهم، ونسأل الله أن يعيننا على أداء تلك المهمة وأن يجنبنا العجز عنها.
جزاك الله كل الخير دكتوره فعًلا مقال رائع جدًا ..