الشريعة الإسلامية مبنية على حفظ الضروريات الخمس: “الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال”. نَظرتُها، فلما رأيت استهتار الناس في وجوه إنفاق أموالهم اخترت المال ليكون موضوعي، فكتبت عن وجوب حفظه.
وفي ثمان عشرة مقالة تناولت جانباً واحداً من الموضوع، فبحثت فقط قضية الإسراف في استهلاك المال في حياتنا اليومية، وطرقت جوانب متعددة من مظاهر السرف في التعامل مع الأموال في واقعنا المعاش، داخل الأسرة بين الأم وأولادها والأب وأبنائه..
وقربت الموضوع وذكرت أمثلة حية أملاً بأن تتوضح الفكرة، ويتبين المقصود؛ فالناس لا يعرفون أن المال في التعريف العام يشمل كل شيء يمتلكه الإنسان، ويقتنيه، أو يملكه من الأعيان، وأنه يطلق على القليل والكثير. ولذا فإنهم لا يلاحظون مقدار إسرافهم وسرعة استهلاكهم لأشيائهم، فيبددون أموالهم وهم غافلون ساهون.
* * *
إن المقصد الأعظم من الشريعة هو جلب الصلاح ودرء الفساد، وذلك يحصل بدفع فساد الفرد والحد من إسرافه وترفه، لأن العالم مجموعة من الأفراد فإن صلحوا صلح مجموع النوع كله. فحفظ الأموال الفردية -كما قيل- يؤول إلى حفظ مال الأمة من الإتلاف، ومن الخروج إلى أيدي غير الأمة بدون عوض. وبه يحصل الكل بحصول أجزائه.
ولا يكون هذا إلا بإصلاح نظرة الإنسان إلى الأشياء والمواد التي يتعامل معها كل يوم، والتي هي متوفرة بين يديه، فهي في حقيقتها أموال، فيجب تعليمه كيفية المحافظة عليها لتدوم أطول وتبقى فيستفيد منها فائدة أكبر وأجدى. فكانت هذه المقالات لتنبه الأفراد إلى الطريقة الصحيحة للتعامل مع الأموال.
وهذا التنبيه ليس بدعاً أو مختلقاً؛ فلو نظرتم في آيات القرآن وفي الأحاديث، وفي سيرة المصطفى مع صحابته الكرام، لوجدتم أمراً صريحاً بتجنب الإسراف في أي أمر:
– إذ لما رأى النبي ص إهاب الميتة مرمياً حض صحابته على رفعه والاستفادة منه. وقد جعل ذلك بعض الفقهاء يسوغون الاستفادة من دهن الميتة في طلاء السفن، وأجازوا أن يطعم المرء الميتة لكلابه.
– ومنه أيضاً أن الفقهاء أجازوا أن يُنبش القبر إن نسي الحفار رفشه داخله، فقدم الإسلام رفشاً قيمته هزيلة على حرمة الميت العظيمة ليفقه الناس أن للأشياء الوضيعة وزناً وأهمية، ولِيُعَلِّم المسلمين ضرورة المحافظة على الأشياء، وعدم الاستهانة بأي مالٍ مهما كان يسيراً.
– وقد يبدو هذا أكثر ما يبدو في أحكام الجهاد؛ فقد نهى الإسلام نهياً واضحاً عن البغي مع الأعداء، حتى حال الحرب وفي ساحة الوغى وعند احتدام القتال، فلا يصح أن يقطع المسلم شجرة، ولا أن يهلك شاة! فقد جاء في الموطأ: “ولا تقطعن شجراً مثمراً، ولا تخربن عامراً، ولا تعقرن شاة ولا بعيراً إلا لمأكلة، ولا تغرقن نخلاً ولا تحرقنه”.
وإن هذا الحديث ليستحق وقفة ونظرة متعمقة، فكيف لا يجوز الإفساد والمسلمون في حالة حرب؟ وكيف لا يجوز وكل منهم يود قتل وإفناء صاحبه؟
إنه لا يجوز لحرمة الأموال، ولاحترام الشريعة للمصالح، ولحفاظها على معايش الناس، وإكراماً لنعم الله أن تذهب هدراً، فلا يستفيد منها من سيبقى حياً -بعد انتهاك المعركة- من البشر والدواب والأنعام.
فإن كان ذلك لا يجوز في الحرب فكيف نفعله في السلم، وكيف نفرط بالأشياء من دون غاية ونحن في الرخاء؟
هذه هي القضية، وتلك هي فكرة الكتاب.
وبالطبع لن يلقى هذا الكتاب ترحيباً من المنتجين والمصنعين والمستوردين، ولا حتى من الأغنياء المترفين، ولكن أملي أن يلقى قبولاً من عامة الناس -ولو غضب مني التجار والباعة- فما دفعني إلى كتابته إلا قوله تعالى: {ولا تسرفوا} فهذا هو المنهج الصحيح في الإسلام في التعامل مع الأشياء (التوسط)، وهذا ما تؤيده الأبحاث والواقع؛ فالإسراف أفسد علينا حياتنا الصحية والاجتماعية والاقتصادية (على المستوى الفردي)، وخرب الكرة الأرضية وكاد يبيد بعض مواردها (على المستوى العالمي).
من مقدمة كتابي “ولا تسرفوا وبعض مظاهر الإسراف في حياتنا”