يرمون أموالهم مع الزبالة

 

والإسراف في رمي بقايا الطعام

لو أني قلت لكم إني أعرف عائلة ترمي كل يوم (وبانتظام تام) عدة ريالات في صندوق القمامة! أكنتم مصدقيّ؟! وإن صدقتموني فماذا ستقولون عن سلوك هذه العائلة؟

ولو أني خبّرتكم أن امرأة تقوم كل يوم بغزل الثياب بطريقة رائعة وبفن وإتقان ثم هي تنقض نصف ما غزلته آخر النهار! ثم تعاود الكرة في اليوم التالي فتغزل ثم تنقض، وهكذا دواليك. فبم ستعلقون على فعلتها؟

وليس المهم -في مثل هذا المقام- ما نقوله نحن عن مثل هؤلاء وما نقوّمهم به، إنما المهم هو صحة أو فساد ما يفعلونه في مقياس الشرع والعقل. فإن كانوا على صواب حذونا حذوهم، وإن كانوا على خطأ توجب علينا أن ننبههم ونأخذ بيدهم ليدَعوا ما هم عليه. خاصة وأن هذين الأمرين (أي رمي الريالات في القمامة كل يوم، ونقض الغزل) لا يفعلهما بعض الناس وإنما كثير من الناس! وأنا أعرف بعضاً من هؤلاء وأنتم أيضاً تعرفون الكثير منهم! فهل عرفتموهم؟

إنهم أولئك الأزواج الذين ينفقون مالهم ووقتهم في شراء لوازم الطبخ، وهن أولئك الزوجات اللاتي تدخل الواحدة منهن المطبخ كل يوم، فتمكث فيه ساعات وتبذل جهدها وتنفق وقتها في تنظيف وتقطيع وتطبيق اللحم والخضار، ثم تأكل هي وعائلتها بعض ما تعبت في تحضيره، ويرمون الباقي كله في صناديق القمامة!

*   *   *

لقد انتشر هذا السلوك حتى بات مألوفاً، وحتى أضحى قاسماً مشتركاً بين عائلات شتى. ثم تنامى وزاد حتى صار بلاءً شديداً وداءً عاماً لا يفرق بين الفقير والغني، ولا المقتر والموسع؛ فسلوكهم جميعاً واحد، وإنما تفرق بينهم الأسباب المؤدية إلى مثل هذا السلوك لا السلوك نفسه، حيث كان لكل قسم من هؤلاء وجهة هو موليها ومستند إليها في رميه للطعام. ونحن لن نستطيع إيقاف هذا السلوك أو الحدّ منه إلا إذا أقنعنا الناس بضعف وتهافت الأسباب التي يتذرعون بها لإهدار النعمة، فما هي الأسباب التي أنتجت هذا السلوك؟ وما هو الحل؟

 إليكم بعضاً من ذلك:

1- قالت لي امرأة: إنا نضطر لرمي بقايا الطعام لأننا نأكل جميعاً من طبق واحد كبير، والطبق الكبير تطيش فيه الأيدي فتقلب عاليه سافله. كما يضع كل فرد السلطة أو المرق على الجهة التي تليه والتي يأكل منها فيتغير طعم الطعام -إذا بات- بتلك الإضافات، ويتغير شكل الوجبة فتعافها النفس.

والحل -إذن- في أن تغير تلك العائلة عاداتها في تقديم الطعام، فلا تقدمه كله دفعة واحدة، وإنما تسكب الكمية المطبوخة على دفعات في صينية الآكلين، وكلما انتهت الكمية أو قاربت يضاف إليها كمية أخرى من القدر، وهكذا حتى يشبع الآكلون. ولكل فرد أن يضيف على جهته ما يشاء من اللبن أو السلطة أو الصلصات من دون أن يؤثر على بقية الكمية المحفوظة في القدر، فتستفيد العائلة مما بقي من الطعام فيه وتأكله في اليوم التالي بدل أن ترميه.

 2- وقالت أخرى: إنها ترمي الطعام لأنها تخشى على صحة عائلتها، فلا يصح (بعد أن تتذوق هي الطعام من قدر الطبخ، ثم يأكل الجميع بملاعقهم من طبق الطعام المشترك) أن يُحفظ لليوم التالي؛ فالجراثيم تتكاثر فيه بسبب لعاب الآكلين فتخربه وتضر بصحة من يأكل منه من بعد.

والحل في أن ترمي تلك المرأة الملعقة التي تذوقت بها الطعام بعيداً، بدل أن ترمي الطعام كله، وإن احتاجت أن تتذوق الطعام مرة أخرى فلتستعمل ملعقة أخرى نظيفة.

والحل -أيضاً- في أن يقدَّم الطعام في طبق كبير يوضع على المائدة ويوضع لكل فرد صحنٌ منفرد وملعقة خاصة، وأن تخصص ملعقة كبيرة ليستعملها كل واحد عند غرف الطعام بحيث لا يُدخل أحدٌ ملعقته التي يأكل بها في الطبق الكبير مباشرة. وإنه لحل سهل يسير وبفضله سينجو ما تبقى من الوجبة من التلوث، وستستطيع العائلة أن تأكله في اليوم التالي.

3- وقالت ثالثة أنها ترمي الطعام لأن عائلتها لا تحب إلا الطعام الطازج، وهي لا تأكل فتات الموائد.

سبحان الله! من أصرّ عليكم -إذن- أن تطبخوا ضعف الكمية التي تحتاجونها؟

ستقولون: “وكيف نستطيع تقدير الكميات بدقة، فالمرء يأكل كل يوم بقدر بحسب الشهية وبحسب درجة الجوع؟”. وأقول: “نعم، هذا صحيح، ومن أجل ذلك نستطيع أن نقدر حداً معقولاً، فنطبخه بحيث تزيد كمية بسيطة إن زادت، فتأكلها الخادمة مساء، أو الولد الصغير دون أن نشعره بالفرق بين الطعام الطازج وبين البائت”.

والحل -أيضاً- في عدم إشباع الآكلين… ولا ضير أن لا يشبع الآكلون! ومن السنة أصلاً أن لا يشبع الإنسان، وما شبع آل محمد من خبز الشعير يوميين متتابعين حتى قبض، والناس اليوم يرمون الأكل وينسون أن لهم إخواناً في البلاد الإسلامية الواسعة لا يحتاجون لشيء قدر حاجتهم لُلِقيمات تقيم أودهم ثم هم لا يجدونها فيموتون دونها. وإن الأجدر بنا -وإن لم نساعدهم- أن نشعر بجوعهم فلا نشبع، أو نحفظ الطعام فلا نرميه، ونشكر الله بأكله كله. وإلا فإنه قد يبتلينا كما ابتلاهم بقلة الرزق.

كما أن دعوى “الطعام الطازج أفضل” لم تعد اليوم صحيحة تماماً أو ممكنة التطبيق على الإطلاق؛ فنحن نأكل المثلجات وهي غير طازجة، ونأكل المعلبات، ونأكل الطعام الجاهز ونحن لا ندري كيف طبخوه وبماذا طيبوه، ثم نتوقف ونحذر من الطعام الذي طهوناه بأنفسنا!؟

وقد أدت هذه الدعوى إلى سلوك طريف، إذ تزوجت امرأة جاهلة رجلاً غنياً فلما سمعت بأن أكابر الناس لا يأكلون الطعام البائت صارت ترمي كل ما يمضي عليه يوم من الطعام والشراب حتى أنها ترمي علب المرطبات المغلقة، ومثلثات الجبن المغلفة وما شابه!

*   *   *

وإليكم نماذج أخرى مما يُفعل بالطيبات من طعامنا:

– إنهن (أثناء تقشير الخضار) ينزعن مع القشور قسماً كبيراً من الثمرة، فتخسر العائلة كمية الغذاء الكبيرة المتركزة تحت القشور، ولو أنهن تأنين قليلاً وحددن سكاكينهن لاحتفظن بهذه الفائدة كاملة لأسرهن.

– وتتخلص غالب الزوجات من لب الكوسا وسائر الخضار التي تفرغ محتوياتها (لتحشى بالرز واللحم)، مع أن تلك المحتويات يمكن أن تصنع منها العجة أو المتبل، كما يمكن طبخها مع اللحم والبصل.

– وبعض ربات البيوت لا تراعي الشروط الضرورية اللازمة لحفظ الخضار واللحوم، فتفسد الأطعمة بسرعة في بيوتهن ويضطررن للتخلص منها، فيخسرن قوتهن بسبب الكسل والإهمال شبه المتعمدين.

– وكل ما تستعمله النساء لتزيين الأطباق من الخضار والفاكهة الطازجتين يتم التخلص منها جميعاً في الحاويات، وهي ما تزال نضرة طرية وطيبة شهية. ولا أدري لماذا لا يستعملنها في صنع طبق من سلطة الخضار أو الفاكهة؟

– وغالب الناس يأنفون من أكل ما يسقط من الطعام (على الطاولة أو على الأرض)، مع أن الواجب أن يماط عنها الأذى وتؤكل ولو سقطت على أرض الشارع، فكيف إن سقطت على أرض البيت النظيفة؟

– ومن الناس من يتسرع ويغرف كمية كبيرة من الطعام في طبقه حتى إذا تذوقه وجده مخالفاً لذوقه فيعافه ويدعه، أو يصب في صحنه (من الصنف الذي يحبه) مقداراً أكبر من طاقته وحاجته، وهو في كلا الحالين يترك بقايا طعامه غير آسف على مصيره، ولا مفكر بعواقب ذلك عند الله.

والحل في أن يتذوق المرء -دائماً- لقمة من أي صنف قبل أن يغرفه في صحنه -وإن كان يعرفه- وهذا أمر مهم؛ فالطعام قد يتغير طعمه من طبخة لأخرى (ولو كانت الطاهية نفسها التي تصنعه في كل مرة (ويظهر الفرق بشكل أكبر إن كانت الطاهية امرأة أخرى)، وأن يصب كمية قليلة فإن لم يشبع زاد عليها، وهكذا.

– وإنهم ليهملون مسح صحونهم جيداً من بقايا الطعام، وكذلك مسح الأواني الكبيرة التي يقدم فيها الأكل، وكل ما يتبقى من الطعام في جوانب وأسفل القدور يكون مصيرة صندوق القمامة ولو كانت كميته تلك كبيرة.

– وكثير من الناس يتعدون على طعام الآخرين فيأخذونه منهم غصباً ثم لا يأكلونه، ويرمونه في القمامة ويتركونهم جياعاً أو مشتهين لأحد الأصناف! نعم هذا ما يحدث دائماً في الحفلات والمناسبات، رأيته منذ الوليمة التي دعيت إليها أول مرة في حياتي ومازالت أراه حتى اليوم!! فقد دعيت وبعض معارفي من قديم إلى وليمة عرس فتريثنا ريثما دخلت غالب المدعوات إلى قاعة الطعام إيثاراً لهن واحتراماً، ثم حملنا أطباقاً واقتربنا لنأخذ عشاءنا فلم نجد على الطاولات شيئاً، أي شيء اللهم إلا الفتات! فقد حملت النساء الطعام كله في صحونهن، حتى أن الطعام كان يسقط من الجوانب بمجرد أن يمال الطبق قليلاً أو تدخل الآكلة ملعقتها لتغرف منه. وبدت أطباقهن للناظر وكأنها دخلت في مسابقة فمن حشتها أكثر كانت هي الفائزة!

لقد تقبلنا في البداية أن نبقى جائعات (وإن كنا مدعوات لنتناول طعام العشاء) فقد تصورنا أن الضيفات قد فُتحت مع الفرحة شهيتهن فسيأكلن كل شيء، ولكن لم تمض إلا دقائق حتى تركت المدعوات أطباقهن بما فيها من الأطايب في أطراف الحديقة، فتناثرت أصناف الطعام المشهية على الأرض، وفوق الطاولات وداخل صناديق القمامة وكان المنظر مخزياً ومؤلماً لمن أدرك حرمة الاستهتار برمي الطعام. وهذا لم يحدث مرة ففي كل دعوة كان يتكرر، فالناس تقبل بلهفة زائدة على الطعام، وتسارع إلى نقله من الأطباق الرئيسية إلى صحونهم، ورغم أنهم في كل مرة يعدلون عن أكل نصف ما جمعوه ويتركونه في أطباقهم، إلا أنهم يعاودون الكرة في الدعوات اللاحقة، ويخطئون التقدير في كل وليمة فيغرفون ويستكثرون، ولا ينتبهون أنهم استأثروا بكمية تكفي لثلاثة أشخاص فمن المستحيل إذن أن يأكلوها وحدهم. حتى إذا شبعوا ألقوا ما هم ملقون بلا خوف من عقاب الله، وبلا أسف أو خجل من الناس الذين حرموا الأصناف التي يحبونها، أو فاتهم الطعام بكامله.

* *  *

أيها المسلمون:

1- إن في رمي الطعام (ولو كان بقايا أو فتاتاً) إثماً كبيراً لأنه رزق ونعمة من الله، وفي رميه استهتار به وبمن رزقنا إياه ولو كان المرمي لقمة واحدة، فكيف بمن يرمي طبق الطعام بكامله؟

وقد علمونا -لما كنا صغاراً- أن لا نرمي أبسط وأرخص الطعام كقطعة الخبز مثلاً، وقد كان يدهشني (لما كنت أعيش في دمشق قديماً) أن البنت (ولو لم تكن ملتزمة بالدين، أو كانت صغيرة) كانت تتحرج أن ترمي من الطعام ولو شيئاً يسيراً، بل كانت إحداهن (رغم كبريائها) تنحني على أرض الشارع لترفع منها كسرة الخبز اليابس -إن وجدتها- ثم تضعها في مكان آمن بحيث لا تدوسها الأقدام.

2- وفي رمي الطعام استهتار بالجهد، والجهد الذي يبذل في إعداد الطعام ليس قليلاً، والآثار التي يخلفها على الأبدان ليست يسيرة؛ فكثرة الانحناء وتحريك اليد يؤثر -مع الأيام- على الظهر والرقبة ويسبب آلام المفاصل، وبعض النساء عندهن الاستعداد للإصابة بالدوالي إن أطلن الوقوف. وأخريات يؤذيهن دخان القلي، وبخار الطهي…

ولا يشفع لأهل البيت أن يكون لهم خدم، فالخادمة -أيضاً- تتعب وتتألم. ولا بد أنها ستتعلم هي الأخرى الاستهتار بالطعام فيكون إثمها على من علمها الإهمال، حتى أنهم رووا مرة أن إحدى الخادمات حسبت أن كل بقايا الطعام ترمى فرمت طبق الفاكهة الطازجة الممتلئ كله في القمامة!

3- وفي رمي الطعام استهتار بالوقت، والوقت أهم ما يملكه الإنسان، وإن الساعة الإضافية التي تقضيها المرأة في إعداد الطعام الذي سترميه لاحقاً يكفيها لتقرأ كل يوم كتيباً صغيراً مفيداً. أو قد تستثمره لتصلح من شأنها استعداداً لاستقبال زوجها بدل أن تتحفه بجرعة مضاعفة من روائح بصل وثوم (فكمية البصل والثوم كلما زادت اشتدت آثار رائحتها) ستلقيه، وتبقي آثار عطره في ملابسها وشعرها وقد كان يكفيها نصفه.

4- وفي رمي الطعام استهتار بالمال، فهل يشتغل أحدنا ويكد ويعمل ليبدد بعدها جزءاً من ماله على صناديق القمامة؟! أموالكم، أموالكم أيها الناس!

5- والأهم مما سبق كله أن رمي الطعام فيه استهتار بأقوال النبي عليه السلام وتوجيهاته، وهذا لا ينبغي لمسلم ملتزم أن يفعله، وقد بلغ من حرص النبي صلى الله عليه وسلم على الطعام أن حرج على المسلم أن يستهتر باللقمة، وأي لقمة؟ إنها اللقمة التي تسقط منه سهواً، فأمره بأن ينحني ويلتقطها ويأكلها ولا يدعها تذهب هدراً من دون فائدة، فروى مسلم: “إذا سقطت لقمة أحدكم، فليمط عنها الأذى وليأكلها، وليسلت أحدكم الصحفة، فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة” فكيف يطاوعنا ضميرنا -بعدها- بأن نلقي اللقيمات وعن عمد وعن نية مبيتة؟ كيف؟

والحديث الصحيح السابق يشير إلى أمر هام، فهو ينهى صراحة عن سلوك يفعله بعض الناس: قد سمعنا قديماً أن كبار القوم لا يتتبعون ما بقي من طعامهم، فيتركون في أطباقهم بقايا طعام حتى يبدوا للناس أنهم قوم مستغنون، وقد رأينا هذا بأعيننا، فالناس في المطاعم لا تميل الأطباق لتمسحها جيداً لأن هذا عيب!

وهذا السلوك يخالف السنة، بل قد يكفر فاعله إن اعتقد أن هذا عيب حقاً، لأنه ينسب العيب إلى سيد البشرية؛ فسيد البشرية أمرنا أن نمسح الطبق جيداً ولا ندع فيه أثراً للطعام، وهذا معنى “يسلت الصفحة”: أي يتتبع ما بقي فيها من الطعام ويمسحها بالإصبع ونحوها.

وقد يتعجب بعض الناس؛ فما قيمة لقمة تسقط، أو فضلة تبقى في الصحفة؟ لكن لو جمعنا ما تلقيه الأمة كل يوم من بقايا طعامها لوجدناها أكواماً، ولجمعنا منها آلاف الوجبات للجياع والمحرومين، ولو أحصينا قيمتها لوجدناها عشرات الملايين.

*   *   *

إن رمي الطعام هو في الحقيقة استهتار بالمال وبالجهد وبالوقت، وما الإنسان إلا وقت وطاقة، فلا خسران أكثر من رمي الوقت والجهد والمال. فإن أضفنا لهذه الحقائق الحديث السابق وما حواه من توجيهات:”إذا سقطت لقمة أحدكم، فليمط عنها الأذى وليأكلها، ولا يدعها للشيطان، وليسلت أحدكم الصحفة، فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة”، لم يبق مسوغاً لفاعل ولا حجة لمستهتر في رمي بقايا طعامه.

*   *   *

شاهد أيضاً

والإسراف في الطاقة

الكهرباء والنفط والغاز وما شابهها (من مولدات الطاقة) من الاكتشافات العظيمة، والإنجازات الضخمة، التي ميزت …