والإسراف في استعمال الماء
“حذر خبير اقتصادي من أن العجز المالي سيرتفع في العالم العربي”، “منطقة الشرق الأوسط مهددة فعلاً بنقص شديد في المياه”، “الوضع المائي العربي الوضع الأسوأ في العالم كله”، “الكرة الأرضية تعاني من الجفاف والتصحر”، “الحرب القادمة ستكون حرب مياه”… كل هذا وغيره والناس لا يبالون ولا يكترثون:
1- فبعض الناس يسرفون في كل عمل يلزمه الماء، فإن كان تطهير الحمّام يحتاج خمسة ليترات استهلكوا عشرين، وإن كان تنظيف الحديقة يكفيه ثلاثون أهدروا سبعين، وهكذا، جهلاً منهم بقيمة الماء. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، أذكر منها واحداً، هو ما تفعله بعض السيدات عند تنظيف الأطباق؛ فتفتح إحداهن صنبور الماء على الصحون المتسخة، وتتركه مدة طويلة مفتوحاً بحجة إزالة بقايا الطعام وتسهيل عملية التنظيف. وهذا فيه إهدار للماء، وإن كان لا يبدو -أولاً- إهداراً، ولكنه كذلك! والسبب أن الأمر يتم بطريقة أخرى أكثر اقتصاداً، يمكن أن نطلق عليها سياسة اثنين في واحد؛ وفيها تبدأ سيدة البيت أولاً -ومن دون شطف مبدئي- بتنظيف المواعين التي لا تحمل بقايا الطعام (كالأكواب مثلاً)، ثم تغسلها فوق أطباق الطعام فيجرف هذا الماء الأوساخ عن الأواني الأخرى ويسهل تنظيفها. أو تغلي قليلاً من الماء وتستعمله مع الصابون في التنظيف مما يسهل ويسرع العملية ويوفر الماء. وفي اتباع السنة (بمسح الآكلين صحونهم جيداً من بقايا الطعام) دور كبير في توفير الماء، مع ما له من البركة في الدنيا والأجر الجزيل في الآخرة.
2- وبعضهم الآخر يستهترون بالماء ولا يبالون بالعواقب؛ فيدعون الصنابير مفتوحة والماء يتدفق منها بغزارة ريثما يعملون أي عمل، كتنظيف أسنانهم مثلاً، أو حلق ذقونهم، وغيره، فهل إغلاق الصنبور وإعادة فتحه مجهد إلى هذا الحد؟! ومنه ما تسلكه بعض النساء أثناء إنجازهن أعمالهن في المطبخ؛ فتفتح إحداهن الصنبور لهدف ما، ثم تتركه مفتوحاً عن عمد لأنها قد تحتاجه في غسل ممسحة أو شطف آنية، وتتابع أعمالها والماء ينساب على بالوعة الحوض، فتعمل على تلميع الطاولة والماءُ يجري، وتنتقل إلى مسح الأرض وما زال الماء يتدفق، وخلال ذلك قد توبخ ولدها أو تكلم جارتها… وهي غير مكترثة بالماء المهدور.
ومن الأشياء التي نخسر بسببها المياه “الشاي” و”القهوة” لما تهدره السيدات من أجل إعدادهما من المياه! أما الشاي فيعدون منه الإبريق تلو الإبريق وفي كل مرة تكون الكمية أكبر من حاجتهم واستهلاكهم فيكبون الباقي في البالوعات وهو ماء نقي صالح للشرب، وأما القهوة فتفتح السيدة صنبور الماء وتأخذ منه فنجاناً، وعلى أقل من مهلها تصب ذلك الفنجان في دلة القهوة تاركة الماء يتدفق من الصنبور، ثم تصب الثاني… وهكذا ومن أجل فنجاني قهوة أوثلاث تخسر الأمة المسلمة خمسة ليترات أو أكثر من الماء العذب النادر الوجود.
3- ويفتح أحدنا صنبور المياه ليغتسل، فيهدر عدة ليترات وهو ينتظر وصول الماء الساخن ولا يشعر بأنه فعل شيئاً! ويهدر ليترات أخرى وهو يعادل الماء الساخن بالبارد، ولا يؤنبه ضميره على الماء الذي فُقد! وقد قست مرات هذا الماء الضائع فوجدت أن الفرد الواحد يريق بهذه الطريقة ما لا يقل عن عشرة ليترات من الماء وربما عشرين (فذلك عائد لأمور فنية تختلف من بيت لآخر)، وهذه الكمية غير قليلة أبداً. وقد كان الأولى بالمسلم أن يستفيد من هذا الماء بدلاً من إهداره:
أ. فيجمعه في وعاء ثم يستعمله لتنظيف المرحاض، أو لأي غرض آخر كسقي الزرع مثلاً أو نقع الملابس، وإنه ليكفي لأشياء كثيرة.
ب.أو يتقي الله فيه باتباع السنة: فينظف أسنانه، ثم يغسل فرجه، ويتوضأ وضوءه للصلاة، ريثما يصل الماء الساخن. فيؤجر مرتين؛ مرة لأنه اتبع المصطفى في غُسله، ومرة لأنه انتهى عن الإسراف.
4- وأحياناً يكسل بعض الرجال عن صيانة مصادر المياه في دورهم وأماكن عملهم، فيتسرب الماء منها ويضيع، فلا يصلحونه ولا يكترثون بخسارته… أو تبالغ بعض السيدات في الوسوسة، فتهدر الماء عدواناً وظلماً بل تستمتع بإهداره؛ فتغسل الملابس وهي نظيفة، وتشطف الغرف وهي لامعة، وتسرف في أعمال النظافة كلها بلا وجه حق. وقد كنت يوماً من هؤلاء، فلما علمت أن هذا إسراف لا يجيزه العقل ولا الشرع انتهيت عنه؛ فقد أمر الإسلام بالطهارة والنظافة، لكنه نهى عن الوسوسة حتى في الوضوء وهو فرض لا تجوز الصلاة من دونه، فكيف ببقية الأمور؟! ففي حديث يرويه الترمذي: “إن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان، فاتقوا وسواس الماء”.
5- والإسراف في الماء ليس ممارسة يلام فيها الأفراد فقط، بل السلطات المسؤولة أيضاً. فهي تحثنا على ترشيد الاستهلاك بشدة، ثم هي تهمل القضية!؟ وقد سافرت براً إلى عدة بلدان فرأيت الماء جارياً في الحمامات العامة التابعة للحدود الدولية وفي غيرها، حتى أنه كان يسيل أحياناً كالسواقي الصغيرة (أقول حقاً)، ولا أحد يأبه له أو يحاول إصلاحه أو حتى إيقافه. وهذا ليس فيه إهدار للماء وحسب؛ بل فيه إيذاء للناس لما قد يصيبهم من البلل، وخطر الانزلاق.
على أن هذا لا يبرر الإسراف في الماء ولا يسوغه؛ فالاقتصاد في استعمال الماء ليس من دعى إليه السلطات وحدها، وإنما هي دعوة من رب الناس الذي نهانا عن الإسراف فيه، وهي دعوة من سيد البشرية. فقد روى أحمد: “أن رسول الله r مر بسعد وهو يتوضأ، فقال: لاتسرف، فقال: يارسول الله! أو في الماء إسراف؟ قال: نعم وإن كنت على نهر جار“. فعلينا إذن الامتثال والاستجابة. ومن أجل الحد من السرف في استعمال الماء نهى النبي r عن الزيادة عن ثلاث في الوضوء: “جاء أعرابي إلى الرسول r يسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثاً وثلاثاً، وقال: هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد تعدى وظلم”.
والأهم منه أنه النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السرف في كمية الماء نفسها، مما يدل على أهمية تقنينه والاقتصاد فيه، ففي سنن الأثرم: “يجزئ من الوضوء المد ومن غسل الجنابة الصاع، فقال رجل: ما يكفيني، فغضب جابر حتى تربّد وجهه، ثم قال: قد كفى من هو خير منك وأكثر شعراً. وقال إبراهيم النخعي: كانوا أشد استفياء للماء منكم، وكانوا يرون أن ربع المد يجزئ من الوضوء. وهذه مبالغة عظيمة، فإن ربع المد لايبلغ أوقية ونصفها بالدمشقي”.
* * *
ولعل الأمر كله سيبدو غريباً للبعض، فيسألون: لماذا نقتصد في الماء والماء -كما نرى- متوفر في كل بيت؟ وكيف سيشكو الناس من قلة الماء والأرض كوكب مائي؟ وكيف تعاني الأرض من نقص الماء، والعلم قد أوجد لكل مشكلة حلاً؛ فمحطات التحلية والتقنيات الجديدة ستستدرك النقص؟ إلخ… والواقع أن إجابات هذه الأسئلة واضحة ومعروفة لمن يقرأ ويتابع: فنسبة الماء العذب على الأرض هي دون الواحد في المئة! وهو غير متساو في التوزيع، وقد كانت حصة البلاد العربية هي الأقل منه، وما تزال حصتها القليلة في تناقص! وأما الماء المنتج في محطات تحلية المياه العذبة فإنه عالي التكلفة بسبب ارتفاع كلفة إنشاء وصيانة وتشغيل المحطة، وكذلك ارتفاع أسعار الوقود المستخدم. هذا بالإضافة إلى أن معظم المدن والقرى بعيدة عن البحار والمحيطات… فالوضع خطير حقيقة.
والمشكلة (التي قد لا يدركها كثير من الناس) هي أن تأمين الغذاء مرتبط بالماء، فإن قل هذا شح ذاك. وللعلم فإنه يلزم 435 لتراً من الماء لزراعة كمية من القمح تكفي لإنتاج رغيف واحد من الخبز. والماء -أيضاً- مهم جداً من أجل الصناعة، فيحتاج إلى ما مقداره 750 ليتراً من الماء لإنتاج نسخة واحدة من صحيفة يومية.
ولعل الذي لا يعلمه كثيرمن الناس هو أن الماء ليس مشكلة عند إهداره فقط، إنما هو يمثل مشكلة أخرى في التخلص منه؛ فالمجاري تتراكم، وتسبب المشكلات البيئية، وتنقل الأمراض، علاوة على أنها ترفع مستوى المياه في المدن، وبالتالي تسبب ضرراً على المنشآت والمباني.
وبعد، فلست أدري كيف سأُفهم الناس في مقالة صغيرة كهذه أي خطر يحيق بنا، وأي مستقبل رهيب ينتظرنا وسيصل إلينا إذا استمر إهدارنا للماء. ولست أدري بأي لغة سيقتنعون، وبأي برهان سيصدقون أننا إن بقينا على ما نحن عليه أوشك أن يلج القحط كل ديار المسلمين، وقد يصيب كل فرد… ولكن ما يطمئن في الأمر أن مشكلة البشرية الحقيقية ليست في نقص موارد المياه على سطح الأرض، بل المشكلة تتلخص في الحاجة إلى إدارة موارد المياه بشكل أكثر تعقلاً، وترشيد الاستهلاك. ولو تدارك الناس الهدر والتبديد لساهموا بنصيب جيد في حل مشكلة الماء. وإنه -والله- لأمر سهل يسير ولا يحتاج إلا لشيء من التفهم والإدراك، ثم لقليل من التحفظ والانتباه.
* * *