بعد أن أنهيت كتابي هذا ونزلت الطبعة الأولى منه إلى السوق سمته صديقة لي “كتاب البخل” وحذرت الناس من التأثر بأفكاره! وقالت لي: “كتابك يدعو إلى التقتير، إنه غير منطقي ولا مقبول في هذا الزمان فاسحبيه من المكتبات قبل أن أغير رأيي فيك فأهجر كتاباتك كلها وأمتنع عن شرائها وإهدائها إلى صديقاتي”!!
وسألتها: “وما البخل الذي دعوت إليه في كتابي؟”، قالت: “تنتقدين رمي الأشياء وبقايا الطعام مع القمامة، وتدعين إلى الاستغناء عن الأشياء الكمالية الغالية والاكتفاء بشراء الحاجات التي يستعملونها فقط. وتطلبين من الناس التقليل من التسوق والشراء، وتريدين منهم التفكير ملياً قبل إخراج المال من الجيب… وهذه كلها من مظاهر البخل الممقوتة، فالكريم ينفق من غير حساب ولا يبالي بالعواقب، ولا يفكر قبل إنفاق المال، فأي دعوة مقيتة تلك التي تدعين إليها؟”.
وحين انتهت صديقتي من كلامها تنبهت إلى سبب غضبها؛ لقد خلطت بين البخل والاقتصاد كما يخلط الآباء بين الحزم والقسوة وكما يخلط الأبناء بين الوقاحة والجرأة فلم تفهم ما رميت إليه من وراء كتابي، وظنت الاقتصاد يساوي البخل!؟ وفهمت أنهما يحملان نفس المعنى ويشيران إلى شيء واحد!! وليس الاقتصاد والبخل قرينين ولا وصفين لصفة وحدة وإنما هما شيآن منفصلان. وأخذت أفكركيف أقنع الناس بالفروق القليلة التي تكون بين الصفات والتي تحولها من حال إلى حال ومن معنى إلى آخر (أي من الحمد إلى الذم والعكس)؛ فالفرق بين الشجاعة والتهور بسيط، ويوجد بين الكرم والاستهتار شعرة صغيرة، وكثير من الصفات في حياتنا ينطبق عليها هذا ويختلف مسماها والحكم عليها باختلاف الظروف والأحوال المصاحبة لها:
– فلو وقف رجل أعزل في وجه قاطع طريق مسلح وقرر منازلته، وكان بإمكان الرجل الهرب والنجاة بنفسه وماله، فهل نقول عن الرجل أنه مقدام شجاع؟! لا، أبداً فهذه ليست شجاعة، والصفة الأقرب إليه هي “التهور”. ولو قفز شاب فجأة إلى البحر -بلا تفكير ولا تردد- لأنه سمع استغاثة رجل يغرق (وكان الشاب سباحاً ماهراً) فهل نصمه بالتهور؟ لا، بالطبع، بل نُعجب به وبسرعة تصرفه، ونقول إنه “شجاع”.
– ولو نزلنا ضيوفاً على أحد العرب فأطعمنا وسقانا لقلنا عنه كريم، أما لو ذبح شاته التي لا يملك سواها ليطعمنا لقلنا إنه مستهتر ولا يقدر العواقب! فماذا سيأكل هو وأهله غداً؟ وكيف سيضيف الآخرين ولم يبق له ما يقدمه لهم؟
هذه هي الحقيقة: الأمور تتشابه علينا فنخلط بينها ونسميها بغير مسمياتها، ولو أزلنا اللبس لفهمنا أن “البخل” غير “الاقصاد” وأنهما مختلفان، وفي اللغة العربية كلمة “بخل” لا تساوي كلمة “اقتصاد”، وإنما “الاقتصاد” إن زاد عن حده انقلب “بخلاً”، وضد “البخل” “الكرم”، و”الكرم” إن زاد عن حده انقلب “استهتاراً”. وقد يكون “الاستهتار” هو نقيض “الاقتصاد”.
و”البخل” مذموم و”الكرم” محمود، ولقد استعاذ النبي من “البخل” ولكنه لم يؤثر عنه بأنه دعا ربه بالكرم، وإنما أُثر عنه أنه امتدح الاقتصاد في أحاديث رواها أحمد منها: “من فقه الرجل فقهه في معيشته”، “ما عال من اقتصد”، وروى الترمذي: “السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءاً من النبوة”. ولم يكتف النبي ص بمدح الاقتصاد بل دعا إليه وأمر به: “إن كان عند أحدكم ما يقيمه فليقتصد فيه، فإن الرزق مقسوم”. وهذه الأحاديث واضحة الدلالة على فضل “الاقتصاد”، فهل من المحتمل أن يدعو النبي إلى مذمة؟ أو إلى خلق كريه؟!!
وجاء في الحديث الآخر أن الإنسان مسؤول عن ماله فيما أنفقه، وأن المال أمانة بين أيدينا وينبغي علينا أن نحرص عليه وأن نؤدي حقه ونصرفه فيما يرضي الله، فيا أيها الناس نحن مسؤولون، وليس للإنسان من ماله إلا ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى أو تصدق فأبقى وهذه هي مصارف المال المعفو عنها. وسمح الشرع بصرف الأموال فيما يفيد وإن غلا ثمنه، قال ابن عباس: “من أنفق مئة ألف في حق فليس بسرف، ومن أنفق درهماً في غير حقه فهو سرف”. ويتقبل الإسلام ادخار الأموال (ويجعل فيها الزكاة)، ويحبذ ويفضل استثمار الأموال في التجارة وما شابه. أما الإسراف في الشراء والاستهتار في الإنفاق وكب الأموال على السلع البائدة والبضائع غير المفيدة… فكله لا يوافق عليه الشرع وقد يعاقب عليه لما فيه من الاستهتار بالنعمة وإضاعة الأموال بلا عائد.
* * *
ولا أدري لماذا نتأخر نحن العرب دائماً في إدراك أبعاد الأمور وننجرف مع التيار العام، ولا نُسقط قيمنا وديننا على حياتنا، ونظل على ما نحن عليه إلى أن يورد لنا الغربيون خلاصة تجاربهم، عندها نؤمن ونصدق بما جاءنا وننصرف عما نحن فيه ونعود إلى إسلامنا، واليوم اكتشف الأطباء الأجانب أن حب الشراء مرض، مرض حقيقي له أعراضه ويحتاج إلى علاج! وسموه “حمى الشراء”! وأعراضه: “حب التملك والرغبة في التسوق والاندفاع إلى الشراء بشراهة وبلا تفكير”، وبعد أن فشل الأطباء في إيقاف المرض أو الحد منه صاروا يعالجونه بالعقاقير! وقد كتبوا عنه وعرضوا تحقيقات مع أولئك المرضى المساكين الذين سيطر عليهم هذا المرض، وشرحوا معاناتهم.
وقد حذر الأطباءُ الأصحاءَ من الوقوع في ذاك المرض، وبينوا أن أكثر الناس لديهم أعراض مشابهة؛ فهم يحبون زيارة المحلات والتجول فيها والتسوق منها، ويرغبون باقتناء الأشياء بغض النظر عن الظروف والقدرات، ويشترون أكثر من حاجتهم ويسعدون بالتملك، ولا يستهلكون إلا جزءاً بسيطاً مما يتسوقون.
وقالوا أن الناس في الغرب عددهم قليل ويستهلكون ثلث موارد الأرض، وياليتهم يستفيدون مما يشترون بل يهدرون موارد الأرض بلا طائل ويحرمون الفقراء منها، ويلحقهم في سلوكهم هذا بعض الأغنياء الذين يسكنون بلدان العالم الثالث، فإنهم مستهترون مثلهم وماضون على طريقتهم، وإنهم يذهبون للتسوق أكثر مما يذهبون لدور العبادة، وخزائنهم مليئة بالثياب التي لا تلبس وثلاجاتهم بالطعام الفائض عن حاجاتهم، وبيوتهم مكتظة بالمتاع الذي لا يستعمل. ومعظم هذه الأشياء تفسد بعد مدة أو تذهب موضتها أو يرغبون عنها فترمى مع القمامة.
أيها الناس، كان هذا ردي على كلام صديقتي، وها قد نقلته إليكم ورجائي أن تقرؤوا كتابي ثم تحكموا بيني وبينها!
(مقال نشرته لي مجلة “النور مؤمنة” الكويتية)