والإسراف في الكسوة
في هذه المقالة نصيحة صغيرة بسيطة، إلا أني ترددت كثيراً في كتابتها وإذاعتها على الملأ لأنني توقعت أن أغلب النساء لن يلقين لها بالاً فضلاً عن أن يطبقنها، ولأنني تنبأت أن تقابلها من تسمعها منهن بالازدراء وأن تتعامل معها باستخفاف. فلمن ألقيها إذن ونصيحتي هذه لا تنفع -غالباً- إلا الإناث وهي موجهة إليهن بشكل أساسي؟!
ثم صدف أن طرحت هذه النصيحة مرة في مجلس صغير، وكانت فيه صديقة لي أنيقة جميلة الجسم وذات ذوق رفيع في اختيار الحلي والثياب والأحذية والماكياج؛ إذ إن أكثر ما تحبه من متاع الدنيا هو الملابس وتوابعها، فهي تترقب الموضات وتتبع ما تمليه عليها من اقتراحات. وإذا بهذه الصديقة تأتيني يوماً شاكرة لنصيحتي تلك التي ألقيتها عليها ذات مرة (ولم أنتبه أنه سيكون لها هذا الأثر البالغ) فسررت، ورأيت أن أعمم النصيحة علَّ إحدى النساء تقتنع بها فيكون لي ولها من الله الأجر ومن زوجها الشكر. ونصيحتي هي: “أن تفكر كل أنثى ثلاث مرات قبل أن تشتري ثوباً جديداً، أو أي تابع له من ماكياج وحلي وأحذية وشنط وأشباهها”. وإني لأعلم أن نصيحتي ستبدو -بهذا العرض- قديمة معروفة ومعادة مكرورة، وإن أثقل الكلام الحديث المعاد! ولذلك سأصوغ نصيحتي بطريقة أخرى أرجو أن تكون بها جديدة واضحة، فاسمعنها مني:
– إن الإكثار من الملابس بلا سبب وجيه سرف لا مبرر له، وشره ليس له ما يسوغه، فقد روى أبو داوود: “ما على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة غير ثوبَي مهنته”، فكان المقبول قديماً أن يتخذ المرء ثوبين لا أكثر، وقد جاء هذا لمن كان في سعة!
وصحيح أن النفس تتوق إلى الجديد وتميل عن القديم، ولكن الإكثار من الشراء سلوك خاطئ لأنه يؤدي إلى نفس النتيجة، فكثرة الملابس تتسبب في كسادها وتضخم عددها وإلى امتناع الاستمتاع الحقيقي بها، إذ سرعان ما تملها العين، فتشعر صاحبتها أنها صارت قديمة وبالية فتتوق من جديد إلى تسوق غيرها!
أو ينسيها بعضُها بعضَها الآخر من كثرتها، أو تتبدل موضتها فتعافها نفوس بعض النساء فلا يلبسنها من بعد أبداً ولا يدرين كيف يتخلصن منها. فلماذا نسرف ثم نوقع أنفسنا في الحرج، خاصة وأن السوق موجود دائماً؟ ولماذا نُخزِّن الثياب والأحذية والشنط في بيوتنا وقد توفر من يحمل عنا هذا العبء إلى حين حاجتنا الفعلية إليها؟!
– وبعض النساء تميل نفوسهن إلى الماركات العالمية المشهورة وإلى دور الأزياء الأجنبية الرفيعة، وهذا سرف مركب لمن ليست في سعة. ولست أنكر أن بضاعة هؤلاء تكون غالباً متفردة متميزة، ولكن أليس من الأفضل أن لا تشجع المسلمة مثل هؤلاء على الربح الفاحش؟ وأن لا تنفق على شراء ثوب واحد ما يكفيها لشراء عدة أثواب من مكان آخر؟
وللثياب الغالية مساوئ أخرى، فبعضها يحتاج إلى نفقة عالية في التنظيف وبعضها الآخر مصنوع من قماش فاخر سريع العطب، فتقيد من تلبسها وتحرمها حريتها في الأكل والحركة (حفاظاً عليها من أي تشوه أو أذى قد يمسها). ورغم الاحتراس اضطرت بعض النساء للاستغناء عن ملابس فاخرة وجديدة فسدت بسبب بقع أصابتها ولم يتمكن (حتى الخبراء) من إزالتها.
– وتهتم بعض النساء بمتابعة الموضة السائدة، فلا تكاد تسمع عن شيء جديد حتى تسرع إلى السوق لشرائه ولو كان عندها ما يكفيها، ولا تهتم بغلاء ثمنه، أو بشاعة مظهره؛ وإني لأعجب كيف تسرف بعض النساء على هذه الأشياء بلا تمحيص فتبدد الأموال، وتنفق بسخاء، وتشتري الأشياء، لتبدو -من بعد- أقل جمالاً من حقيقتها التي خلقها الله عليها!؟ فمن تبتغي أن تكون أنيقة فعلاً وفاتنة في هندامها فإنه لا يصلح لها اتباع الموضة من دون تمحيص، ولا ينبغي؛ لأن الموضات لا تراعي اختلاف الأحجام والأشكال ولا تناسب أجسام كل النساء، فهي تظهر ما خفي من عيوب بعضهن، بل تبالغ في إبرازها. ومن أهم شروط الأناقة -عامة- أن تخفي المرأة عيوب جسدها وتظهره بأحسن وأبهى صورة. فعلى من تبتغي الجمال -إذن- أن تكون ذات ذوق رفيع فتتخير ما يناسب طولها وعرضها من الملابس، فلا تلبس مثلاً ما تبدو به قصيرة أو بدينة، أو ما يبدي عدم تناسق أجزاء جسدها، ولا تلبس من الأحذية ما يبرز عيوب قدميها، ولا تضع المكياج بشكل يشوه وجهها فتبدو عيونها -مثلاً- صغيرة وفمها كبيراً! ولا تضع الألوان التي لا تتناسب مع لون بشرتها… فلكل امرأة ما يناسبها وليس من المنطق أن تلبس النساء كلهن زياً موحداً متشابهاً. وقد كانت بنات المدرسة يعترضن على هذا ويتمنين أن يلبسن ما بدا لهن من الثياب، وقد كن يفعلنه على مضض، فما بالهن الآن يرضين بالزي الموحد ويسعين إليه وقد ملكن حرية الاختيار؟!
كما أن الموضات تتقلب بسرعة، وما تغير منها لا يعود إلا محرفاً، فلا يمكن -من بعد- الاستفادة من ثياب انتهت أيامها. فمن أرادت متابعة الموضة والتقيد بها فعليها أن تضع هذا في حسبانها، فلا تسرف في كل مرة تتسوق فيها تحسباً لسرعة انتهاء صلاحية ما تشتريه! وقد تغلبت جارة لنا على هذه المعضلة الأنثوية ببساطة ومن دون إسراف، فكانت ترضي حبها لاتباع الموضة بشراء قطعة أو اثنتين فقط من الملابس أو الحلي وتوابعهما، وكانت كلما تغيرت موضة حليها باعتها، واشترت الجديدة متغرمة الفرق بين الاثنتين فقط بدل أن تكدس القديم والجديد. وكانت تبيع ملابسها التي انتهت موضتها وتشتري أخرى سارية المفعول! أو تتصدق بها على أفراد عائلة متعففة لا تسأل الناس إلحافاً فتؤجَر وتتخلص هي من مشكلة اقتناء ملابس لن تلبسها مرة أخرى.
ويجدر هنا التنبيه والتحذير من الموضات التي تخالف الشرع؛ فتبدي العورة أو تشف عنها، فهذا يعد تبذيراً (إذ التبذير، كما جاء في التفسير، هو الإنفاق في محرم أو مكروه أو على من لا يستحق)، والتبذير أفظع من السرف لأنه إنفاق للمال فيما حرمه الله. فإن ضمنت المرأة أن لا يراها إلا زوجها فلا ضير.
-وعلى المرأة أن تتذكر (وهي تتسوق) بأن جسدها قد يتغير بين شهر وآخر فقد تتضخم وقد تتقلص، فلا تكثر، وإلا فإنها ستخسر الكثير من المال على ملابس ستصبح قريباً عديمة النفع والجدوى. فإن لم يتغير مقاسها فقد يتغير ذوقها. وعليها أن تتذكر ذلك -أيضاً- عندما تشتري لأولادها الصغار، فإنهم يكبرون بسرعة فتنمو أجسامهم وتتغير مقاساتهم بين شهر وآخر، فإن تكارمت واشترت لهم قطع الملابس الغالية، أو بالغت وأكثرت من الثياب والأحذية، فإنها ستخسرها كلها بعد مدة يسيرة.
وأقول لكم من تجربتي كانت لي خالة في ألمانيا ترسل لنا كل مدة مجموعة من الثياب الفاخرة الغالية، وكنا نفرح بهذا ونشكرها. فلما تصلنا يتبين لنا أن هذا الثوب أضيق مما ينبغي والآخر يسبب قماشه الحساسية، وبعض الملابس تراها جميلة فإذا لبستها ظهرت عيوبها… ثم كبرنا فلم تعد مناسبة لأعمارنا أو لأحجامنا ولكن عز علينا الاستغناء عن ملابسنا الغالية تلك وها هي في الخزانة ما تزال.
* * *
وليست هذه المقالة دعوة للزهد في اللباس والامتناع عن الشراء وترك الأناقة، فالإسلام أمر بالزينة وطالب بالتجمّل وندب إلى تحسين الهيئة… ولكن الأمر أن النتائج الجيدة يمكن الحصول عليها بطرق عدة: ففي السوق بضائع كثيرة متفاوتة الأسعار، ولو اجتهدت كل امرأة وسعت بجد لعثرت على ضالتها وبسعر مناسب لحالتها. وأضرب مثلاً بصديقتي التي استمعت لنصيحتي، فهي لم تنقص من أناقتها شيئاً ولم تخفف من اعتنائها بجمالها وحسن مظهرها، ولو لم تخبرني -بنفسها- أنها استفادت من نصيحتي لما اكتشفت ذلك وحدي! وهذا ما قالته: “لقد اقتنعت بنصيحتك، ولكن شق علي أن أتخلى عن أناقتي التي تميزت بها، فكان جل ما فعلته هو تصيد الرخص وتجنب المحلات الكبيرة التي تغرينا بديكوراتها وتجذبنا بإعلاناتها ثم تسترجع منا كل هذا في ثمن السلعة التي تقدمها لنا، فالثوب الذي تبيعه المحلات الفاخرة بمئة تجدينه نفسه عند المحل المتواضع بثلاثين”. كما أخبرتني أنها باعدت المدة بين التسوق والآخر، ولم تعد تكثر من الشراء في المرة الواحدة، وصارت تبتكر في ارتداء ما تشتريه فتلبس القطعة من هذه مع الأخرى من تلك وتغير وتبدل (كما فعل الخليل في معجمه “العين” حيث أخذ تقاليب الكلمة الواحدة التي تتألف من ثلاثة أحرف ثم شكل منها ست كلمات!)، حتى صارت تبدو في كل مرة ألتقيها وكأنها في ملابس جديدة لم تلبسها قط. كما استغنت عن بعض الحلي الفاخرة وعدلت عنها إلى المقلدة، وإن التقليد اليوم قد بلغ إتقانه درجة كبيرة بحيث يصعب تمييزه إلا على العين الخبيرة جداً.
* * *
وهذا النوع من الإسراف “الإسراف في الكسوة” وإن ذهبت بأغلبه النساء فإنه يدخل فيه قسم من الرجال؛ فبعض الرجال يحبون الملابس وتوابعها، ويسعون وراء الموضة. وهم يتخيرون أحذيتهم ورباط عنقهم، ويقصون شعورهم لتناسب أحدث الموديلات، وينفقون على هذا مالاً وفيراً ووقتاً كبيراً… وهذا وإن تقبل من المرأة فإنه قد لا يتقبل من الرجل بنفس الدرجة، لأن الرجل الحق يعتني بمخبره أكثر من مظهره، ويكفيه من مظهره أن يتبع السنة، فيكرم شعره ويحسن هيئته ويتسوك ويتعطر ولا يسرف لما رواه أحمد والنسائي وابن ماجه: “كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير سرف ولا مخيلة“.
* * *
وقد يقول قائل: مقالتك مرددة عليك! إذ كيف تقولين هذا، وقد روي: “إن الله جميل يحب الجمال؟” وروى أبو داوود أيضاً: “إذا آتاك الله مالاً فلير أثر نعمته عليك وكرامته”؟
فمثل هذا أقول له: “إن الله قال بأنه يحب أن يرى أثر النعمة على عبده لا النعمة كلها”!