والإسراف في متاع البيت
جاء في الدعاء المأثور: “اللهم إني أعوذ بك من نفس لا تشبع”، فالنفس التي لا تشبع أمرٌ مذموم حتى تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم منه وجعله من دعائه الشريف، وللأسف فإن كثيراً من الناس لا تشبع نفوسهم، وأنا أعرف بعضهم من النساء اللاتي لا يشبعن من التملك وتكديس الأشياء، فأكاد لا أراهن إلا في السوق يتهافتن على شراء أي شيء. وهذا أمر عجيب، فالسوق وضع لذي الحاجة، فإن احتاج امرؤ إلى متاع ذهب إلى السوق ليبتاعه، لكن بعض النساء على العكس من ذلك؛ إنهن يذهبن إلى السوق ليرين إن كان ثمة متاع أو سلعة لم يسمعن بها أو لم يحتجنها فيشترينها ويخزنّها في بيوتهن! وهن يشترين كل شيء يصادفنه ولا يستثنين، مثل: التحف، واللوحات، والزرع، والبياضات، والسلال…
وهن وإن اخترن الأماكن الشعبية الرخيصة فإنهن لا يخرجن إلا بالمبلغ المرقوم، وقد حاولت إحداهن -مرة- أن تقاوم رغبتها العارمة بالشراء فذهبت إلى التسوق بمبلغ صغير، وكانت النتيجة أنها اضطرت إلى الاستدانة من البائع، ولما عادت في اليوم التالي لترد له دينه، اشترت بطريقها أشياء أخرى لم تتح لها في اليوم السابق فرصة شرائها!
وكثيراً ما تندم هؤلاء النسوة على تسرعهن في الشراء، ويحترن كيف يتخلصن من بعض الأشياء التي اشترينها؛ إذ تتبين لهن عيوبها بعد أن يتفحصنها جيداً في المنزل، أو تبدو لهن بصورة مقيتة وقد زال انبهارهن بطريقة عرضها، أو يدركن أنهن لا يحتجن ما اشترينه أبداً! وهذا هو الإسراف بعينه: أن يشتري الإنسان شيئاً عديم النفع له. ولهذا يدخل “الإسراف في متاع البيت” في السرف الذي نهى الشرع عنه.
وقد سألتُ بعضهن عن السبب في ابتياعهن بعض البضائع التي لا يحتجنها بكميات تجارية (مثل المناشف والأغطية الصوفية وقطع القماش، وأواني المطبخ) فجاءتني هذه الإجابات:
– هذه المناشف قد أحتاجها لجهاز ابنتي (عمر ابنتها عشر سنوات)!
– وهذه الأغطية الصوفية قد أحتاجها إن نام ضيف عندنا (وهي لا تستضيف أحداً أبداً في الشتاء)!
– وقطع القماش هذه بعضها من أجلي (وكانت تشكو بأنها لا تجد من يخيط). وبعضها الآخر قد أحتاجه إن سافرت في الصيف لأهدي الأهل منها (سألتها: هل حصرت عدد النساء وما يناسب كل واحدة منهن، فقالت: في الحقيقة لا، وحسبي أن أشتري وأستكثر)!
– وقالت لي أخرى: “أنا أهوى الأدوات المطبخية ويسعدني جمعها، وكلما صادفت أكواباً جميلة، أو طقم شاي مزخرف، أو فناجين قهوة على الموضة، أو أي آنية أو أداة لطيفة… تهف نفسي إليها ولا أستطيع منعها، ولدي الآن مجموعة كبيرة منها”. وأضافت لتقنعني بحاجتها إلى تلك الأشياء: “وأنا امرأة مضيافة، ومن غير المعقول أن أقدم لضيفاتي الشراب والشاي والقهوة في نفس الفناجين دوماً وإنما ينبغي عليَّ التشكيل والتبديل والتجديد”، هذا ما قالته، ولكنها كانت تخشى على أشيائها تارة و تكسل تارة أخرى عن إحضارها من غرفة الطعام (حيث تحفظها)، فلم تستعمل شيئاً مما اشترته وكانت تكتفي بالأوعية القديمة المتوفرة في المطبخ.
والذي حدث بعد ذلك أن ثلة من أولئك النسوة هاجرن من الوطن من سنوات، ولكن ما تزال -حتى اليوم- خزائنهن مكتظة بالمناشف والأغطية وقطع القماش… ويعلوها ركام من الغبار والرمال. وبعضهن الآخر لم يستعملن الأغطية أو المناشف لأنها فاخرة فآثرن تخزينها على الاستفادة منها. وبعضهن -لما جاءت مناسبة واحتجن إلى تقديم هدية- لم يجدن شيئاً مناسباً مما خزنَّه فاضطررن إلى التسوّق من جديد وتكلفن مالاً آخر، وما كسبْنَ سوى التضخم والكساد في ما جمعنه سابقاً.
* * *
وأعرف نساء يملن إلى اقتناء الأثاث وتوابعه (من السجاد والستائر والتحف وأمثالها) ويسرفن في ذلك، وكلما وجدت إحداهن ما يعجبها منه سارعت إلى شرائه، ولو كانت لا تحتاجه، حتى اكتظت بيوتهن بالمتاع، وحتى صارت الغرفة الواحدة فيه تحتوي على ثلاثة نماذج من الأثاث وعلى أربعة ألوان من الخشب؛ الأمر الذي أثر على جماله ورونقه وبهائه، وهو مما يخالف الذوق السليم (وبيوت الأثرياء وأكابر القوم يكون الأثاث فيه قليلاً متباعداً لا كثيراً متلاصقاً).
وهذا الركام من الأثاث والتحف يحتاج إلى عناية أضعاف ما يحتاجه الأثاث الضروري البسيط؛ فهو يحتاج إلى تنضيد وترتيب، وإلى تنظيف وتنسيق. فكان لا بد من أن تستعين صاحبة البيت بخادمة لترعى هذه التحف وهذا الأثاث فتتغرم أجرتها فوق ثمن المتاع، أو أن تنفق المرأة أيامها وشبابها في رعايته. وإن وقت المسلم وجهده أهم من أن يضيع ويفنى في هذه الأمور، وصحته أكرم من أن تبلى في خدمة متاع الدنيا.
ومتاع البيت حمل ثقيل لمن يسكن في بيوت مؤجرة، حيث يضطر -كل مدة- إلى حمله والانتقال به من منزل لآخر، وآنذاك يكون كل غرض عبئاً ثقيلاً، مهما خف وزنه ومهما صغر حجمه.
* * *
وبعض العائلات تعودت أن تجدد بيتها كل مدة، وإن كانت محتوياته في حالة جيدة، فيبدلون الأثاث والستائر وكل شيء. يفعلون ذلك عادة وتقليداً، أو يفعلونه اتباعاً للموضة، فالأثاث كالثياب في تبدل وتغير، والديكور في تلون وتزين. وهذا إسراف بغير وجه مقبول، وفيه صرف للمال بعيداً عن المقصد الأصلي الذي وضع لأجله.
وبعض الناس كلما تعطل جهاز من أجهزة البيت الضرورية رموه واشتروا غيره، كالثلاجة، والمكيف، والغسالة. وهذا إسراف وتضييع للمال، إذ غالباً ما يكون العطل بسيطاً وتكلفة تصليحه يسيرة، فعلامَ يُرمى؟!
أو هم يكثرون من الأجهزة فيكون في البيت ثلاث ثلاجات، وثلاثة تلفزيونات، ومسجلات، ورادّات، وكاميرات… وهذا التعدد في الأجهزة في البيت الواحد لا لزوم له غالباً، وإن لزم فالمفروض أن تكون حالة استثنائية وأن تقدَّر بقدرها. ولكن هذا السلوك عم وانتشر، مع أنه غريب على مجتمعاتنا؛ فقد كان الناس -قديماً- يرضون بالقليل ويميلون إلى البساطة في متاع البيت حتى كانت العائلات المتجاورة يستعير بعضها من بعض متاع البيت وأغراض الطبخ وعدة العمل، فما بالنا -اليوم- لا يسعُ أفرادَ البيت الواحد ما كان -في الماضي- يسع أبناءَ الحيّ وجيران السكن، حتى صار كل واحد في البيت يريد لنفسه جهازاً خاصاً به لا يشاركه فيه غيره؛ من كمبيوتر أو تلفزيون أو رادّ أو مسجّل أو غير ذلك؟
ولماذا -اليوم- هذا السرف في المتاع، وفي البيت الواحد، وهو سرف قد يذهب بروح التعاون والأخوّة بين أفراد العائلة الواحدة فيجعل الفرد يميل إلى الأثرة والأنانية والفردية؟
* * *
إن تجنب الإسراف في متاع البيت أمر محبذ ومطلوب لما رواه مسلم: “فراش للرجل، وفراش لامرأته، وفراش للضيف، والرابع للشيطان”، إذ اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الفراش الذي لا صاحب له زيادة لا داعي لها ولا منفعة من ورائها، فما قولنا ونحن نسرف في متاع البيت بأنواعه (من فرش وأدوات كهربائية وأشياء نثرية…)، فنتشري ما لا نحتاجه، ونخزن في بيوتنا ما لا نستعمله، فنجمد أموالنا أو نميتها في سلع مصيرها إلى البوار؛ فالتخزين يذهب ببريق السلع، والزمن يضعف فاعليتها، والتقدم في الاختراعات يجعلها بعد مدة يسيرة عديمة الجدوى.
فيجب أن لا يزيد الإنسان متاعه عن حاجته، وليدفع حبه للشراء قدر استطاعته. ولو ترك الإنسان نفسه على هواها لما شبع. ولو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً، فإن لم يحدّ المرء من رغباته لما توقفت أبداً.
* * *