فلان أفضل منك

 

الاهتمام بزرع الصفات الجيدة، والخصال الحميدة في الطفل هدف كل أم ُمحبَّة، وهدف كل أب ينشد المثالية، ويبتغي لأولاده النجاح و الفلاح.

وذلك الهدف يتحقق بيسر وسهولة، ومن دون الحاجة إلى عبارات ذات تأثير محبط كقولنا: “فلان أفضل منك”، وهو أمر نبه إليه مرب ناضج فقال: “من أكثر ما كان يحز في نفسي ويؤلمني -وأنا صغير- أن أمي كانت تعيرني دائماً بقريب لي على أنه أفضل مني بعدة صفات”.

وبه نصحت أم خبيرة فقالت: “جربت هذا الأسلوب مع ولدي حيناً؛ فاستعملت هذه العبارة، وعيرته بصفة موجوده في قريب له، ثم نسيت الأمر، وإذا به يسألني بعد سنوات: أمي هل مازلت مستاءة من أنني ولدك؟ وهل يسعدك أن تتخلصي مني و تستبدلني بقريبنا فلان لأنه يمتلك خصلة أنا أفتقدها؟!”. وعقبت أمه بأسى: “في تلك اللحظة شعرت بحجم الجرم الذي فعلته”.

فما هي الآثار الخطيرة لهذه العبارة؟

***

هذه العبارة لأن لها مخاطر لا يمكننا تجاهلها:

1- فهي تؤدي إلى زيادة التنافس الطبيعي بين الأقران والأنداد عن طريق عقد المقارنات والمفاضلات التي تتسبب أولاً في استياء الصغار بعضهم من بعض، ثم توصلهم بعدها إلى الغيرة، وقد تحملهم على الغل والحقد.

وتكون العبارة أكثر خطورة إذا استخدمت للمقارنة بين الإخوة والأخوات؛ فالغيرة تولد مع الإنسان وتنمو بنموه (وإن كانت تتباين شدتها من شخص لآخر)، وتفضيل ولد على ولد من شأنه أن يثير غيرة وحفيظة الأخ الذي يسمع هذه العبارة، فتنمو الكراهية بين الإخوة ويظهر النفور والإحساس بالسخط. وهذا ما يقوله د. سبوك: “إن بعض الآباء يميلون إلى التوبيخ الذي يوجهونه إلى أبنائهم أكثر مما يميلون إلى تشجيع الصفات الحسنة في الأبناء ويحاولون أن يعقدوا المقارنات الدائمة بين الأطفال الإخوة ولهذا فإن الأطفال يتجهون إلى الغيرة من بعضهم وإلى التنافس وتشتد فيهم أحاسيس المقارنة وتشتد بينهم أيضاً المعارك”[1].

والغيرة إذا نمت وتحولت إلى عقدة أصبح علاجها عسيراً، وأصبح صاحبها ناقماً لا يستريح لنجاح غيره، وأصبح همه أن يُخَذِّل الناس من حوله حتى يتفوق عليهم.

*   *   *

2- الأمهات -غالباً- لا يعرفن الكثير عن فلان هذا الذي يعيرن به أولادهن (فهن يلقينه من وقت لآخر وفي ظروف معينة، فيرينه بأحسن حال وأجمل صورة) ولا يدركن حقيقته ومواطن الضعف في شخصه وسلوكه. ومن هنا قد تكتسب العبارة أبعاداً تربوية أخرى فيها إساءة للولد؛ إذ سيحسب الولد أن فلاناً هذا ملاك -بناء على كلام أمه- فيتبعه في كل أمر ويقلده في كل سلوك ظاناً أنه الإنسان المثالي، فربما اقتبس بعض سيئاته، أو تتبع بعض عاداته القبيحة، فقلده فيها، فيقع في بعض المخالفات والأخطاء.

*   *   *

3- وإذا اعتقد الولد أن فلاناً أفضل منه تضعف إرادته فيتكاسل عن التفوق. فيصبح فلان أفضل منه بحق. فيفقد الثقة بنفسه. ويرى -من بعد- أن كل الناس أفضل منه. ومن وصل هنا، كان قريباً من إحدى العقد النفسية: “عقدة النقص”، وهي عقدة منتشرة بكثرة بين الناس، ومن عيوبها أنها تقود صاحبها إلى تقليد ومتابعة الناس في كل شيء يظنه حسناً من السلوك إلى الأخلاق إلى اللباس. والتقليد الأعمى مكروه: “لا يكن أحدكم إمعة يقول: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا أن تتجنبوا إساءتهم”[2].

أيتها الأمهات، إن الصفات الحسنة لا تجتمع كلها في شخص واحد، فتتبعنها في الناس ثم نبهن الأبناء إليها في فلان وفلان، بدل تعييرهم بفلان على الإطلاق. و”الحكمة ضالة كل حكيم، فإذا وجدها فهو أحق بها”[3]. فكان لزاماً على الأم أن تهتم بالقيم وبالأخلاق الإسلامية، فتحث ولدها عليه وتحببه إليه، ولا ضير بعدها أن تمثل له (ليتفهم قصدها) فتقول: “وفلان عنده هذه الخصلة، وفلان يسلك هذا السلوك الجيد”.

*   *   *

  4- “فلان أفضل منك” عبارة مفتوحة دلالاتها غامضة تثير التساؤلات والشجون، فتشوش فكر الطفل وتشغل عقله بتحليلها وسبر أغوارها فيفقد التركيز الجيد، ويشرد ويسرح بعيداً. وهذه المظاهر يصحبها -على الأغلب- عادات سيئة، كمص الإصبع أو قرض الظفر. عادات يكتسبها الطفل فجأة ويصعب من بعد التخلص منها.

*   *   *

5- وأختم أخيراً بما قاله د. سبوك لأن فيه الزبدة والخلاصة: “إن كل إنسان يريد مكاناً لا يشاركه فيه أحد في قلب إنسان آخر. والأمثلة على ذلك في حياتنا اليومية كثيرة. مثلاً.. أن يقول لك رئيسك في العمل.. أنت وزميلك ((فلان)) أكفأ الموظفين في العمل.. إنني أتنبأ بمستقبل ناجح جداً لكما. إن فرحتك بهذا النوع من الثناء ليست كبيرة لأنك تعرف أن لك منافساً هو فلان الذي يحتل مكانة تساوي مكانتك بالضبط عند رئيسك. لكن لو قال رئيسك.. أريدك أن تعرف أنني راض تماماً عن عملك وأعتقد أنك تؤديه على أفضل وجه ممكن. من المؤكد أن فرحتك من هذا النوع من الثناء لا تقدر… وكذلك حال الطفل.. إن الطفل يكره أن يوضع على نفس المستوى مع أحد غيره. إن آخر ما يرضي الطفل أن نقارنه بأحد، إنه يطلب أن نعجب به هو، وبصفاته التي لا يملكها أحد غيره، لأن المقارنة تضعه في حالة تنافس مليئة بالقلق. وتجعله مهموماً بضرورة البحث عن أفضليته هو. كما أن المقارنة تجعله حساساً للغاية لأي تفاوت في المعاملة بينه وبين إخوته… فعلينا دائماً (نحن الآباء والأمهات) أن نكون هادئين ومطمئنين إلى أننا نحاول أن نفعل كل ما هو صالح لأطفالنا.. إننا نقدم حبنا الصريح والمتفاني لكل طفل من أطفالنا ونشعر بالاغتباط الحقيقي بما في كل طفل من خصال حميدة. ونبذل جهدنا الدائم للابتعاد به عن العادات السيئة”[4].

(العبارة الحادية عشرة في كتابي “عبارات خطيرة”)

*   *   *

[1] دكتور سبوك: حديث إلى الأمهات مشاكل الآباء في تربية الأبناء ص454.

[2] الترمذي.

[3] الترمذي.

[4] دكتور سبوك: حديث إلى الأمهات مشاكل الآباء في تربية الأبناء ص13.

شاهد أيضاً

دع اللعب فقد كبرت عليه

تستهجن بعض الأمهات أن يلعب أولادهن الذين اقتربوا من البلوغ بأي لعبة (رغم اختلاف الألعاب …